حين يتفتح وعي الواحد منا على الحياة يجد نفسه كمن يمضي في سرداب طويل يفضي به إلى قاعة كبيرة مظلمة، ويجد نفسه بعد ذلك منهمكاً مدى الحياة في التعرُّف على ما في داخل تلك القاعة واكتشاف أسرارها، وينقضي عمره وهو يبحث دون أن يشعر أنه عرف كل شيء. واللافت للنظر أننا ونحن ندرك الأشياء ندركها على أنها أشياء مبعثرة ومجزأة، ونميل إلى أن نتعامل معها على أنها كذلك، مع أن من الواضح أن الله تباركت أسماؤه قد سلك كل المخلوقات في منظومات ومجموعات متباينة في الظاهر ومتعالقة في الباطن؛ لحكمة بالغة اقتضت ذلك. المخلوقات من الذرة إلى المجرة مفطورة على الاتجاه نحو الاستقلال، وكأنه بالنسبة إليها يساوي الوجود. المهم بالنسبة إلينا هو أن نتعامل مع الأشياء والأحداث والأفكار.. من أفق كونها جزءاً من كل ومن أفق العلاقات التي تربط بينها، وإلا فإن رؤيتنا لها ستكون عمشاء، وتعاملنا معها سيكون قاصراً أو خاطئاً أو غير فعَّال، ولعلي أوضح ما أريده من خلال سَوْق بعض الأمثلة: 1 إذا أردنا أن نفهم أي شيء فهماً دقيقاً؛ فإن علينا أن نفهم لحظة ولادته وتاريخ نشأته، وأن نفهم الأطوار التي تقلَّب فيها؛ لأننا إذا لم ندرك هذا على نحو جيد؛ فلن نتمكن من فهم ذلك الشيء على الوجه المطلوب؛ فالحاضر يظل مبهماً إلا إذا فهمنا الماضي، وجذع الشجرة يظل غامضاً إلا إذا عرفنا امتدادات جذوره. والواقع أن التاريخ يحتفظ بالسجل الجيني والنفسي للناس، ويحتفظ بمدلولات الأطوار والتطورات والطفرات والانكسارات التي مرت بها الأشياء، ومن ثم فإن فهم كل ذلك يستلزم العودة إليه. ومن هنا نجد أن الأمم المتقدمة تهتم بتدريس تاريخ العلوم، كما تهتم بالسير الذاتية ، فهم تاريخ العلم يساعدنا على تطويره من خلال رؤية المشكلات التي واجهته والمنعطفات التي مرَّ بها، وفهم السيرة الذاتية لعَلَم من الأعلام يعني أننا نعرف الأساتذة الذين أخذ عنهم والكتب التي أثرت فيه، وأن نعرف التيارات الثقافية التي تفاعل معها. فهم السيرة الذاتية يعني رؤية المرتكزات العميقة للشخصية والجوانب المظللة فيها، وأعتقد أن علينا من اليوم أن ننشط على كل المستويات في الاهتمام بهذين الأمرين حتى لا نقع في براثن الملاحظات المبتسرة والمعلومات السطحية والمشتتة. 2 ذكرنا أن الله تعالى فطر الأشياء على السعي إلى الاستقلال ومع الاستقلال ينشأ التنافس، لكن مع الوعي والخبرة تنشأ حالات كثيرة من التكيُّف والتأقلم والتكافل والتعاون، وأعتقد أن علينا أن نمتلك الوعي المطلوب حتى نرى الأشياء كما خلقها الله تعالى مترابطة متعاونة.لننظر على سبيل المثال إلى المال بوصفه أداة لتحقيق الأمن والسعادة ومكافحة الفقر والبطالة، إنه جزء من كل؛ فهو بمفرده لا يحقق السعادة ولا النجاح، ولا يقضي على الشعور بالتعاسة، كما أن فقد وفرته لا يأتي بالتعاسة، وقد صدق من قال: رجل لا مال له هو رجل فقير، وأفقر منه رجل لا يملك سوى المال. إن الشيء حين يدخل في علاقة مع غيره تتعرَّض بعض صفاته للتغيُّر والتبدُّل، وبذلك يتغير تأثيره ودوره تماماً كما يحدث للعنصر الكيميائي حين تمزجه مع عناصر أخرى، وهذا التغيُّر أحياناً يكون قوياً جداً إلى درجة يمكن معها القول: إن الشيءَ هِبَةُ علاقاته وتمازجاته، وإن من لا يدرك هذا على المستوى الإنساني والاجتماعي قد يخسر الكثير، وقد يعرِّض نفسه لكثير من المخاطر. 3 - في كثير من الأحيان نقع في وهم السيطرة الكاملة على ما تحت أيدينا، فتظن الدولة والجماعة والمؤسسة والرجل في أسرته... يظن كل هؤلاء أنهم يتحكمون على نحو مطلق في الحيز الرسمي لإدارتهم، وهذا غير صحيح، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن كل قضية من القضايا محكومة بعدد من الفضاءات المتسعة والتي تشبه دوائر متداخلة ومنفتح بعضها على بعض، وهكذا فلكلِّ شأن من الشؤون فضاء محلي، وفضاء إقليمي، وفضاء عالمي، وفضاء كوني، لكن من سنن الله تعالى في الخلق أن الأقرب إليك هو الأشد تأثيراً؛ على اختلاف تعريفنا للقرب ونظرتنا لأنواعه وتجلياته، ولنا في هذا الإطار أن نتأمَّل قوله عز وجل : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 61]. التفكير العلائقي يمنحنا التوازن والاعتدال والشمول، ويساعدنا على فهم أعمق لكل شؤوننا وأحوالنا، وينبغي أن نهتمَّ بامتلاكه والتدرُّب عليه.