عندما تكون السيرة الذاتية في مستقبل أدبياتنا جزءاً من السيرة النفسية، فهذا يعني خلق منظور جديد يوحد بين قطبي التحليل النفسي والعمل الأدبي، وصولا إلى النقد الأدبي، الذي من المؤكد أن يتجاوز من خلال هذا البعد التحليل اللغوي الشكلي للنصوص، بشكل علمي متزن، للكشف عن بلاغتي النفس واللغة، فالسيرة النفسية عندما تكون مبثوثة مشاعرها في السيرة الذاتية، فهذا يعني وجود سيرة ذاتية يقوم بناؤها على احتواء السيرتين، ظاهرها (القليل) الذات وباطنها (الأعم ) النفس، إلا أن الأديبة والإعلامية الأستاذة حليمة مظفر ترى بأن السيرة الذاتية لم تكتب بالشكل الذي تستحقه كفن أدبي، رغم وجود بعض التجارب لمجموعة من الأدباء كتبوا سيرتهم الذاتية لكنها كتبت بطريقة انتقائية لا شفافة، كما ترى أن ما كتب في مشهدنا الثقافي من سير ذاتية، أقرب لأن تكون سير عملية تسجل تجارب عملية لا تجارب خاصة. تقول حليمة: السيرة الذاتية كفن أدبي في المقام الأول يحتاج إلى كسر تلك الحواجز النفسية بين الكاتب والقارئ، وأولى هذه الشروط السماح للقارئ بالتبحر في مكنونات الكاتب وخواطره وعواطفه وتناقضاته والتجول في حياته بين أزقتها وحاراتها وقراها وأوديتها.. ليعرف مواطن الفشل وأسبابها ومواطن النجاح وتأثيراتها، وأن يجرؤ الكاتب على الاعتراف بأخطائه ومواقف فشله العاطفي قبل تسليط الضوء على نجاحاته وعلاقاته الإيجابية في العمل والدراسة. وعن استقلال السيرتين فنيا شكلا ومضمونا اختتمت حليمة حديثها قائلة: السيرة النفسية هي جزء لا يتجزأ من السيرة الذاتية ولا يمكن الفصل بينهما من وجهة نظري، لأنها تعنى كفن بتسجيل تلك العواطف الإنسانية وشعور الكاتب النفسية تجاه المواقف على تناقضاتها والتي لا يمكن أن تخلو من أحد منا سوى الملائكة، ولهذا حين ينوي كاتب السيرة الذاتية اختراق هذا الفن على حقيقته ينبغي أن يكون قادرا على الجلوس على كرسي الاعتراف بأسراره، وهذا الاعتراف أمر للأسف حتى الآن لم يوجد ضمن منظومتنا الثقافية الاجتماعية الفنية حتى الآن. وأضاف الأستاذ سحمي بن ماجد الهاجري قائلا: السيرة النفسية موجودة في السيرة الذاتية، وإن بطريقة غير مباشرة، بداية من الظروف التي أحاطت بنشأة الكاتب، والمصاعب التي تعرض لها، وآثارها على نفسيته، وصولا إلى وعيه ورؤيته، وما لهما من أساس نفسي. ومن جانب آخر يسأل الهاجري: هل من الضرورة إفراد السيرة النفسية بإصدار خاص بشكل مباشر؟. أم أن عمقها وتعقيدها يقتضي أن تستخلص استخلاصا من أغوار النصوص المتنوعة؛ السيرة، والرواية، وباقي الفنون القولية والبصرية، والمجالات المعرفية الأخرى؟. أي أن أهمية الجانب النفسي، وطبيعة أغواره البعيدة تقتضي أن يُلتمس في العمق، وليس على السطح؛ ويكون التأويل في هذه الحالة هو الأداة المناسبة لكشفه، بدلا من التعبير المباشر، ومن هنا نشأ مصطلح (السيرة النفسية) (PSYCHO BIOGRAPHY) بوصفه مفهوما يستدل الناقد النفسي من خلاله على نفسية المبدع من مجمل نصوصه، وما تكرر فيها من تصورات ورموز وألفاظ وشبكات دلالية تتحول النصوص من خلالها إلى وثائق معرفية تنم عن خبايا العالم النفسي للكاتب. وفي هذه السياقات، تشتغل مفاهيم مثل سيكولوجية الأدب، والنقد النفسي، وعلم اللغة النفسي؛ ولهذا فإنني أميل إلى أن ينصرف مصطلح (السيرة النفسية) إلى كونه فعالية نقدية، أكثر مما هو نص إبداعي. أما عن النصف الآخر (المرأة ) في السيرة قالت حليمة: حتى الآن لم تأخذ المرأة في السير الذاتية بطولة الوجود في ساحات الكتاب على وجه الحقيقة، بسبب رؤية المجتمع الضيقة وعاداته وتقاليده فإن من كتبوا لدينا سيرهم الذاتية يضعون ذلك رقيبا عليهم، ويقلقهم كتابة ما يتعارض معه. فيما يتكئ فن السيرة العالمية من حولنا، على النفس بين سرير التحليل النفسي، والاقتراب أكثر من الجلوس على كرسي مكاشفات الذات، فلا يزال هناك المزيد من الأسباب التي تحد من ظهور سيرة نفسية، في مشهدنا المحلي والعربي بشكل عام مع وجود ندرة في المحاولات. الدكتور، سلطان بن سعد القحطاني تحدث عن أبرز هذه الأسباب قائلا: هناك أسباب كثيرة في تأخر ظهور السيرة النفسية في مشهدنا الثقافي العربي بشكل عام ومشهدنا السعودي بوجه خاص، فالسيرة النفسية مرتبطة بعلم النفس، وعلم الاجتماع، والدراسات الإنسانية، والنقد العربي اهتم بدراسة النص، ودراسة صاحب النص من الظاهر، ولم يهتم بدراسة الظاهرة الإنسانية في النص الفني من الداخل، تحت ما يسمى بعلم التأويل. ومضى د. القحطاني قائلا: التأويل في مثل هذه الحالات لا يكفي إذا لم يعد الدارس على خلفيات المبدع مع أن العقاد بدأ هذا المشروع أسوة بالنقد النفسي الإنجليزي في دراساته، لابن الرومي، والعبقريات، إلا أن هذا المشروع لم يستمر عند الآخرين ولم يطور، لأن النقاد لم يدرسوا علم النفس والتحليل النفسي للنص ومبدع النص على ضوء العلوم السيسولوجية، فغلب الجانب الذاتي في دراساتنا الثقافية على الجوانب الأخرى التي يجب على الناقد أن يراعيها في دراساته النقدية. بين أنا علم النفس التحليلي وعلم نفس الأنا الفرويدي، ووظائف الأنا هنا وهناك باتجاه السيرة كأدب يزدحم الكثير من التساؤلات..يقول الهاجري: عندما لا يحبذ الأفراد في مجتمع معين كتابة سيرهم النفسية، ألا يجدر التساؤل عن تعقيدات فهمهم للجانب النفسي، وقصور معرفتهم به، واختلاط تصورهم عنه بمعارف وتصورات العصور القديمة؟. وما يحيل إليه كل ذلك من عدم الاعتراف بكثير من تفاصيله العلمية، على قلتها أساسا؟. أليست المسألة ثقافية أكثر مما هي أدبية؟. ثم. أليست دلالات الغياب أحيانا، مساوية لدلالات الحضور، أو أعمق منها؟. هل يمكننا أن نقيس الكاتب الذي لا يحبذ تدوين سيرته النفسية، بالفرد الذي يتحاشى الذهاب إلى الطبيب النفسي، وإذا ذهب إليه حرص على أن يظل الأمر في نطاق السرية التامة، حتى لا يتهم بالجنون، وما يعنيه ذلك من الدخول في دائرة عالم الجن، تلك المتاهة الثقافية، التي يتساوى فيها - أو يزيد - تصور أجهل الجهلاء بتصور أعلم العلماء المحليين؟. د.فاطمة الوهيبي أبدت تحفظها على استخدام (السيرة النفسية ) بوصفها مصطلحًا، قائلة: يمكن تناول الموضوع من زاويتين : الأولى منهج النقد النفسي، والثانية الاتكاء على مفاهيم علم النفس ومعايير النقد النفسي عند تناول السيرة الذاتية تحديدًا. وتضيف د.فاطمة: أود أن أقول إنه من الضروري بدءًا أن يكون واضحًا أن السيرالذاتية العربية هي المقصودة بالحديث في هذا المحور، فالبون شاسع بينها وبين السيرة الذاتية في الغرب، ولعله لأن السيرة الذاتية في الغرب تأتي ضمن سياقها الثقافي والإيديولوجي وفي جذور تضرب في فكرة الاعتراف الكنسي تبدو تلك التجارب أكثر غوصًا وصدقًا في مواجهة الذات بأخطائها وبأبعادها البشرية، أما السير العربية فتعجز عن ذلك لآفة النفاق السائدة في معظم المجتمعات العربية، ولآفة الخوف من رأي المجتمع وردة الفعل وممارسة مبدأ التقية، كما أن التجمل والتماهي مع النموذج التقليدي العربي الذي لا يمكن الفكاك فيه من سيطرة قوة تسلط رأي المجتمع المسكون بروح القبيلة والعرف يكرس تغليب خبرة الجماعة على تجربة الفرد وحريته في بسط رأيه والمجاهرة بها، كما أن للدين الإسلامي دوره في التخفيف من المجاهرة وإعلان الخطايا، مع ملاحظة أن معظم كتاب السير العربية يخلطون بين فكرة (الخطأ) و(الخطيئة) وبدلاً من أن يظهر الإنسان فيها بشرًا قابلاً للخطأ والمساءلة ومواجهة الذات بصدق ورؤية متزنة نجده يتحول إلى نموذج قريب من النبوة من جهة العصمة من الخطأ البشري ومن جهة التماهي مع نموذج النبوة الذي تتسم أول صفاته بالابتلاء، ومعظم كتاب السيرة مبتلون !! إما بالمناصب أو بالمال أو بتورم الذات واستفحال الادعاء بالتميز والإبداع العبقري، ولم أر سيرة ذاتية فيها كشف لأغوار الذات وتشوهاتها إلى جوار جماليات الذات في مواجهة أخطائها سعيًا إلى التغير والنمو والسير بتناغم مع صيرورة الذات، و لا أشير هنا إلى الأخطاء في الإدارة والعمل الرسمي على أهميته وإنما المقصود مكاشفة الذات في مواجهة ذاتها والآخر والعالم. واختتمت د. فاطمة حديثها بقولها: إن أفضل المكاشفات السيرية اندست متوارية في ثوب الرواية ؛ لذلك كثر لدينا نوع الرواية الممتزج بتقنيات السيرة، وهذا يؤكد مرة أخرى أن ما يُخفى في مكان قهرًا ينفجر ضرورة في مكان آخر، كما يؤكد ما أشرت إليه من سمة المداراة والمناورة وأحيانًا كثيرة النفاق. السيرة عندما تكتب بمداد النفس، تعني لصاحبها شيئا، وتعني للقارئ أشياء، فالرواي يعيد تشكيل ذاته من جديد، والقارئ يفتش في نفسه عبر هذه السيرة في علاقة ديناميكية تقوم على تداعي المعاني التي تخرج إلى سطح الذات صورا كانت تتنفس في أعماق الذات. يقول د.القحطاني عن هذه العلاقة: السيرة النفسية تعالج الجوانب العقلية في ضمير المبدع، التي تظهر وتختفي في أوقات معينة يحددها سياق النص فيما يعرف بمصطلح( تداعي المعاني )وهي عملية ميكانيكية تتعلق بالحواس الخمس، وتحتاج على مثير تلقائي خارج إرادة المبدع، وبالتالي تجذب إليه معطيات لم تكن في ذهنه، لكنها موجودة تحت (اللا شعور)يستدعيها الحدث بما يشابهه، وتقدم للنص مصدرا مهما من مصادر الإبداع لا يحتاج من المبدع أكثر من صياغة فنية للموقف الحاضر مستمدا قوته من الحدث المخزون في الذاكرة. واختتم د. القحطاني قائلا: السيرة النفسية، قادرة على أن تقدم للمثقف صورة معرفية عن ماض يشابه في صورته ماضيه أو يقاربه، من حيث التصور المعرفي الثقافي، فتلك الأحداث التي مرت بحياة كل الناس تتشابه في الصورة وتختلف في المضمون، وهي مقيدة بالسبع السنوات الأولى في حياة الفرد، لكنها تلازمه في صور تختلف عن صور السرية الذاتية المتصلة، بمعنى أنها تظهر وتختفي في أوقات معينة، أما السيرة الذاتية فتلازم الإنسان من ولادته إلى حين كتابتها، وكم من قارئ قرأ نصا فوجد صورته فيه، لكنها صورة مجزأة على شكل لوحات ومواقف. وبعد هذا التجوال خلف كواليس السيرة الذاتية، التي ترفض أن تكون مجرد شهادات ومؤهلات، ودورات، ومشاركات، وحضور مؤتمرات، وعضويات، وكتيبات...السيرة التي ستكون قادرة على أن تكون فنا مدونا بمشاعر الذات، التي ستكون قادرة ذات يوم أن تقلب معادلة تطبيق التحليل النفسي على الأدب، إلى تطبيق الأدب على التحليل النفسي، للخروج بخلاصة السيرة، عندما تكون أول أدواتها لغة النفس.