يقول الجاحظ: "لولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى".فالتجربة إذن هي مصدر المعرفة. ويقودنا مفهوم التجربة إلى شيئين: - مواجهة الحقيقة التي يصعب معرفتها لأنها متقلّبة ومتعددة. فيجب إذن البحث بأنفسنا عن جزء من الحقيقة وفهم أنه لا يمكن أن نفهم كل شيء ولا بد من البحث المتواصل عنها "قل وما أوتيت من العلم إلا قليلا". - ممارسة طويلة للأشياء. فعلا لا بد من التجربة بالممارسة الطويلة ليحصل الفهم والإدراك. فإذا عشنا الأشياء، والكائنات والأوضاع يمكننا معرفة حقيقتها. وكذلك العلم يحصل بالممارسة ويفتح ذراعيه لمن يُقبل عليه من الباطن. فلا مقابل بدون بذل. « إن العلم أوله مرُّ المذاق ولكنَّ آخرَه أحلى من العسل”. ومن الخطأ أن نجعل الممارسة مقابل النظرية والخبرة مقابل الفكرة. فوراء الممارسة هناك عادة فكرة فريدة. تحتاج الفكرة إلى خبرة لتفرض نفسها كنظرية، والاثنان يتكاملان معاً. ولا تتواجد هنا الخبرة والفكرة إلا للمساهمة في تقدم المعرفة وإسداء الخدمة للإنسان.فالعلم في خدمة المجتمع. والخبرة وكذلك الفكرة إذا لم يفيدا بشيء فهما عديمتا القيمة. "علم لا ينفع كدواء لا ينجع." التجربة تولِّد التجربة وتحثّ على مزيد التعلّم والعمل والتجديد وليس العكس. إن مفهومي التجربة والتجريب يجب أن يدخلا في جميع المجالات العلمية وغير العلمية (فلسفة، لغة...) في جميع مستويات المجتمع (منظمة، اجتماع، اقتصاد، ثقافة...). التجربة الميدانية هي أكبر مدرسة بل أفضلها لبناء مجتمع التجربة القائمة على معرفة الأشياء والتجربة العلمية. ففي الدانمارك مثلا، يحظى البناؤون بنفس المكانة التي يحظى بها المحامون في المجتمع.ويقول المثل العربي: "اسأل مجرباً ولا تسأل حكيماً". ونحن نقول: "اسأل مجرباً أوّلا ثم اسأل حكيماً". إن تقنيات الاتصال والمعلومات تساعد على إجراء تجارب بأقل تكلفة وبسرعة فائقة وبالقيام بمحاكاة بواسطة الحاسوب. وكما تم بناء المجتمع الأمريكي على كلمة "اخترع" يمكن بناء المجتمع العربي على كلمة "جرّب" في جميع الميادين. لقد قادت هذه التجارب إلى بلورة مفهوم مدرسة الفعل: الفعل بهدف الفهم والتعلّم. وفي الرأي العربي القديم، كان الابتكار عادة خاصّا بالمجال الأدبي. فالإبداع يكاد يكون حِكْرا للشاعر أو الفنان. هكذا نجد القصيدة دائما في المقام الأول.وفي اللغة علم البديع هو أحد العلوم الثلاثة: علم المعاني، علم البيان، علم البديع.أما في أوربا، فالمبدع هو الفنان أي الرسام، الموسيقي والممثل. فالتركيز هو قبل كل شيء على الفعل. إن مفهوم الإبداع والابتكار هو أمريكي المنشأ فقد بُني المجتمع الأمريكي على شعار الحث على الإبداع بفعل أمر "اخترع". وظهر هذا المفهوم في الأربعينات. وكان مرتبطا بكبار المبدعين في مجال العلوم الصحيحة (ميكانبك، طيران، بترول، طاقة ذرية...).ويساهم الإبداع حتى في تعريف الإنسانِ وبالتحديد إنسانِ اليوم. ليس لدينا الخيار إذن في إرساء الابتكار على جميع مستويات التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي. ينبغي تطوير الاستقلال الفردي وروح المبادرة لإيقاظ حبّ الاطلاع وشحذ الابتكار. فلا بد من إيصال المعارف بربطها عضويا بنمو الإبداع. هناك ثلاث صعوبات في إدراج مفهوم الابتكار في المدرسة: - صعوبة ربط الأهداف الكلاسيكية (قراءة، كتابة، حساب) مع الأهداف الجديدة (استقلالية، مبادرة، إبداع). - رفض إدخال الإبداع إلى المدرسة التي أنشئت بالأساس لتدريس المبادئ الأساسية لكل مادة وخلق ترابطات إبداعية. - رفض إدخال الإبداع إلى المدرسة حفاظا على الطابع الإنساني علما أن الإبداع هو مطلوب اليوم للتكيف مع سوق الشغل. تصور المرء لأشياء هو رؤية أشياء غير موجودة في ما هو موجود (في الو اقع)، إبداء رغباته، توقعاته مخاوفه. نفهم إذن أن الخيال هو محل تشكيك كما يلاحظه بسكال في "جنون البيت" و"سيد الأخطاء والزيْف". ومن ناحية أخرى يصرّح باسكل بأنه لا وجود لعالم بدون خيال. لا بد من التمييز بين الحلم أي الخيال الخادع الذي لا طائل من ورائه والخيال الحكيم الضروري الذي يؤسس للمستقبل. الحلم الخادع يحاول ابتكار واقع لا وجود له وتصديقه بلا نقاش وهو ضرب من الوهم ومن ثَمّ يقابل بالرفض. الخيال الحكيم الضروري لا يرفض الواقع ولا يقبل الوهم. إنه امتداد لازم للواقع. إنه ملكة اكتشاف ما هو مخبّأ في الواقع وليس في الخيال. إننا لا نرى إلا ما نحن قادرون على تصوره بتصورنا أننا نعيشه. إنه افتقاد الخيال الذي يجعلنا نتِيه. عدم قدرتنا على التصور يعني عدم قدرتنا على الرؤية.