كل شيء إنساني هو تواطؤ واتفاق. أي أن المبادئ والقيم والمعايير هي إجماع البشر أو فئة منهم على شيء محدد. ولكن ليس معنى هذا أن هذه المبادئ اختلاق البشر، ولكن المعنى أنه ليس هناك مبادئ يؤمن بها شخص واحد فقط. فهي ذات طابع كلي واجتماعي. وهذا الشيء المحدد المجمع عليه هو كما يفترض خارج تصورات البشر. إلا أن هذا الخارج مهما يكن لا بد أن يفهم أو يؤول. أي أن يمر بقناة العقل البشري، فتصبغه بصبغتها. ومادام العقل وتصوراته تتغير فهذه المبادئ المتعلقة بذلك الشيء متغيرة أيضا مع الزمان. في كل مجتمع تسود مجموعة من المبادئ والمعايير التي ترسم للناس حياتهم وقناعاتهم. هذه المبادئ والمعايير كما قلنا تأويل قامت به «عقول». هذه العقول كانت تمتلك السلطة والقوة، وبالتالي فهي من يؤسس للمبادئ ويضمن السيطرة على الناس. إن التأويل الغالب غالب ليس بقوته الداخلية بل بالقوة السياسية تحديدا. لقد قررت مجموعة من الساسة والمفكرين في أمريكا مثلا في القرن الثامن عشر قائمة من المبادئ والمعايير والقيم التي ستحكم البلاد. وهذه المبادئ والمعايير لم تنتصر إلا بسبب انتصار من ابتكرها أو أبدعها أو قررها. ولولا ذلك لاختلف الوضع. فالسلطة إذن تقوم بتربية المجتمع ونشر المبادئ فيه فهي لا تفعل سوى أن ترسخ مكانتها وسلطتها. ولذلك كان أكبر خطر واجهه الأمريكان هو المد الشيوعي الذي كان يبشر بقائمة مبادئ ومعايير مغايرة تماما لما أسست عليه البلاد. إن انهيار هذه المبادئ هو انهيار السلطة ذاتها. على أن مفهوم السلطة لا يقتصر على السلطة السياسية وحدها، فهي أوسع بكثير من ذلك، إنها تكاتف ضمني وصريح بين طوائف مختلفة، دينية واقتصادية واجتماعية وأدبية ونحوها لكي تنتج أو تعيد إنتاج المبادئ المؤسسة بصيغ شتى. ما معنى كون هذه المبادئ أو تلك المعايير اتفاقا وتواطؤا؟. قلنا سالفا إنها تعني الإجماع.. فليست هناك معايير أو مبادئ يؤمن بها فرد واحد بدون أن يشاركه فيها غيره. أيضا من معاني الاتفاق والتواطؤ أن المبدأ يحيا ويموت، إنه قابل للتغير وأيضا قابل للفناء والتلاشي. إنه ليس حجرا صلدا، بل حتى الحجر الصلد يتغير ويفنى. لو أخذنا شيئا نقيضا فلنقل حقيقة رياضية كقولنا: اثنان واثنان يساوي أربعة فهي لا تتغير مع الزمن لأنها ببساطة ليست اتفاقية واصطلاحية. وإذن فما هو اتفاقي وتواطئي فهو قابل للاختلاف حوله. ومع ذلك فكلنا يعرف أن للمبادئ الاصطلاحية قوة في ضمائر وعقول الناس لا تفوقها قوة المبادئ العلمية الراسخة. بل إن المرء ليموت من أجل مبدأ حياتي على أن يموت من أجل معادلة رياضية. وأشدد مرة أخرى على أن كلمات «اصطلاحية» و «اتفاقية» و «تواطئية» لا تعني الوهم، بل إنها فقط تفتقر لأدنى صفة من صفات الموضوعية التي تمتاز بها الرياضيات والعلوم الدقيقة. إن المبادئ هي محرك للنشاط البشري وقد يعيش الناس بدون علوم ولكنهم لا يعيشون بدون مبادئ. لكن ما هو المبدأ ؟!، إنه فكرة.. فكرة ينتجها الإنسان بالإبداع أو بالتأويل. وهي ليست مجرد فكرة تأملية ينشئها مفكر أو عالم، بل هي خبرة وتجربة البشر في الحياة. صحيح أن فكرة لفرد قد تسيطر على مجتمع كامل إلا أن الغالب هو أن مبادئ المجتمع تصنع من خلال مواجهتهم للحياة ومصاعبها وأسرارها. إنها حصيلة لجدل العقل مع الواقع. ولكنها في النهاية تظل أفكارا وتصورات. فالفكرة هي تصور موجود في الذهن لشيء موجود خارجه. وهذا الموجود الخارجي هي الحياة بما فيها من أشياء طبيعية، علاقات اجتماعية، أحداث تاريخية وغيرها. وقد ساعدت اللغة على إبداع وتوصيل هذه الأفكار وبالتالي توريث المبادئ وترسيخها. على أننا لا يجب أن ننسى أن اللغة بحد ذاتها هي اتفاقية أيضا. وهذا يزيد من تعقيد الأمور ويجعل القوة لا المنطق هي العامل الوحيد لسيادة أفكار معينة دون غيرها. ولكن السؤال الآن: متى تصبح الفكرة مبدأ ؟، ببساطة حينما يعتنقها المرء كحقيقة إيجابية غير مشكوك فيها حتى ولو كانت وهما ، فيكون خاضعا لها في فكره وعمله. إذن فهناك عامل نفسي يتدخل بقوة لتحويل الفكرة إلى مبدأ، وهذا يجعلنا نفهم لماذا يموت البعض من أجل مبادئ هي أفكار وتأويلات قابلة للتغير. هذا العامل النفسي الذي يوحد بين المرء ومبدئه هو ما يمنح القوة الطاغية للمبدأ وهو ما يعطيه الرسوخ والثبات. إن المبادئ لا تحكم فقط الحياة المعيشية للمرء، بل إنها موجودة في العلم والفلسفة والنقد وغيرها. ففي الفلسفة مثلا والتي من طبعها أن ترتاب في كل شيء حتى في المبادئ، هناك مبادئ ضمنية تم الاتفاق عليها بشكل غير مباشر أو غير واع، هذه المبادئ تحدد عمل الفلسفة وموضوعها ومن هو الفيلسوف من غيره. وهي متغيرة بكل حال. فإذا قلت: «لماذا لا يعد أبو العلاء المعري فيلسوفا؟»، لقلت لأن (التقاليد المتفق عليها ضمنا) لا تقر له بذلك. فهل تغيرت هذه المبادئ لاحقا؟، أجل المبادئ بطبعها التغير المستمر وإن كان بطيئا، فكاتب صوفي كابن عربي أصبح اليوم فيلسوفا. «ولكن ... هل هو فعلا فيلسوف؟!»، نعم، ولا: لا، تبعا لمعايير القدماء، أما اليوم فهناك اتفاق شبه ضمني بين فلاسفة ومفكري العرب المعاصرين اليوم على الجواب بنعم. إن التواطؤ الذي يؤسس المعايير هو من يجيب. في العلم أيضا هناك تواطؤ على ما هو العلم وما مجاله وما موضوعه. فأرسطو الذي ظل عالما طبيعيا لمدى قرنين من الزمان لم يعد كذلك بمعايير اليوم.. وأختم بالبلاغة والنقد.. فمعايير الجمال الفني أيضا تواطؤ واتفاق، بصرف النظر عن صحة المعايير أو خطئها (الذي يقرره الاتفاق أيضا!!). «فهل هذا النص الشعري جميل؟»، الجواب يتوقف على معايير البلاغة التي ربيت عليها. «هل قصيدة امرئ القيس جميلة؟»، بالنسبة لي لا أدري!، «قالوا: إنها جميلة» فقلت بمثل ما قالوا. وحينما توغلت بعض التوغل في عالم البلاغة عرفت أن معاييرها أصلا تأسست على شعر امرئ القيس ومن معه!. إذن نحن في دائرة لا يعود فيها للحقيقة المطلقة من أثر. نقلا عن عكاظ