رغم غزارة الانتاج الفكري الاسلامي فيما يتعلق بعلاقة الاسلام بالسياسية إلا أن اغلب هذا الانتاج تمحور حول العلاقة الداخلية بين الحاكم والمحكوم في مقابل علاقة الدولة ككل (كدولة اسلامية) بالخارج مع الدول الأخرى، فالسؤال الذي لا يزال حبيس أدراج المفكريين الإسلاميين هو: هل يوجد حقاً نموذج إسلامي للعلاقات الدولية؟ وهل الخطاب الاسلامي قادر على انتاج مفاهيم تحكم علاقة دولته بالدول الأخرى في هذا العصر الحديث؟ منذ كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي ومروراً بمفهوم الحاكمية الذي قدمه ابو الأعلى المودودي استمر الخطاب الاسلامي السياسي - بمجمله إن صح التعبير - في اختزال اشكالياته واسئلته في مفهوم الدولة من الداخل وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وشهد الخطاب الاسلامي السياسي بصورة عامة نقاشاً ثرياً في هذا الجانب نتيجة التجربة التاريخية والفكرية للدول الاسلامية، في المقابل عانى الخطاب السياسي الاسلامي الخارجي من معضلة ثنائية الحرب والسلام، فالدولة الاسلامية في منظورها التاريخي قامت ككل دول القرون الوسطى أو "عالم الامبراطوريات" على ما اسماه الكاتب محمد المختار الشنقيطي بمفهوم "أخوة العقيدة وقانون الفتح" في مقال له بعنوان "الناس على دين دساتيرهم" وتاريخ 2011/2/16، وهو ما يعني أن الدولة القديمة كانت قائمة على الاشتراك في عقيدة أو عرق عكس الدولة الحديثة القائمة على الاشتراك في رقعة جغرافية تشكل مفهوم الوطن والمواطنة والهوية، ومن هذا المنطلق تأسست فكرة الأمة كجماعة المسلمين دون اعتبار للحدود الجغرافية واصبحت حدود الدولة كأي امبراطورية قديمة قائمة على مفهوم الاتساع، وهو الأمر الذي انتج الفكرة الاساسية التي احتكرت الخطاب الاسلامي الخارجي في التعامل مع الدول الأخرى وهي مفهوم دار الايمان ودار الكفر أو دار السلم ودار الحرب، فهذا التقسيم الصلب للرؤية تجاه العالم أوجد المفاهيم المتعلقة بالعلاقات مع الغير والرؤية التقليدية التي لا تعتبر الآخر ودولته كياناً مقابلاً وإنما كيان معادٍ يجب ان يخضع لكونه دار حرب واجب فيها الجهاد ونشر الدعوة والفتح. ومثلما واجه الخطاب الاسلامي الداخلي تحديات وإشكاليات العصر الحديث فبدأ في محاولات اعادة انتاج نفسه واجه الخطاب الخارجي ذات التحديات والاشكاليات، إلا أن الخطاب الخارجي ظلت مراجعته متأخرة بعض الشئ وقامت الدول الاسلامية كالامبراطورية العثمانية مثلاً في التعامل مع الخارج بمنهج عملي براغماتي طبقا لمتطلبات العصر الحديث كما في علاقاتها واحلافها مع دول اوروبا دون محاولة لإنتاج قراءة جديدة توافق الخطاب الاسلامي السياسي بواقعه المعايش، ولا تزال اغلب المحاولات الراهنة تدور حول الأسئلة الرئيسية كمحاولة موافقة الشريعة أو المفاهيم الاسلامية بالقانون الدولي او تأصيل نظرة اسلامية مفادها أن الاصل هو أن العالم دار سلم، وهي محاولة لا تفلت من ثنائية الحرب والسلام، ومن ثم لم يدخل الخطاب الاسلامي بعد في صلب القضية الرئيسية وهي مسألة انتاج مفهوم أو مفاهيم جديدة حاكمة لرؤيتنا تجاه العالم. إحدى النقاط المثيرة للاهتمام تاريخيا في هذا الشأن رغم انها جاءت في سياق مختلف تماما هي "فتوى ماردين" الشهيرة للشيخ ابن تيمية، ورغم ان فتوى ماردين هي احد الفتاوى الاساسية التي يرتكز عليها الفكر التكفيري الحديث واستباحة قتل المسلمين طبقا لتأويلات تخرج الفتوى من سياقها السياسي التاريخي إلا أن الملفت للنظر في هذه الفتوى هي تقديمها لمفهوم "الدار المركبة" أي لا دار حرب ولا دار سلم، فهذه الفتوى جاءت تأييدا لحملة السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون الذي اعلن القتال ضد التتار الذين حالفهم اهل ماردين، والاشكالية ظهرت من كون التتار في حينه قد دخلوا في الاسلام ومن ثم اصبحوا من المنظور التقليدي ولاة امر لا يجب الخروج عليهم او محاربتهم وهو ما تجلى في سؤال صاحب المسألة "أنقاتلهم حتى وإن صلوا وصاموا؟" فكان جواب ابن تيمية "لو رأيتني أنا في صفوف التتار وعلى رأسي المصحف فأقتلني"، وبعيداً عن الإشكاليات والتأثيرات العميقة لهذه الفتوى فإن ما أثارته من جدل وما تم عليها من مراجعات لم يتعد صعيد الخطاب الاسلامي الداخلي خاصة في ظل قضية بروز الجماعات الإرهابية والتكفيرية وارتكازها على هذه الفتوى، وما يهم النظر له هنا هو مفهوم الدار المركبة وما يفتحه من ابواب للانطلاق نحو تأسيس وعي جديد للرؤية تجاه العالم والعلاقات بين دوله، في عصر حديث فيه دول غير مسلمة بها مسلمين على سبيل المثال. ان استقراء التاريخ الاسلامي دون الفصل بين الدولة السياسية له وبين الاسلام كدين وعقيدة هو اساس المعضلة التي تواجه توليد هذا الوعي الجديد الحاكم لرؤيتنا، فالفتوحات الاسلامية ونشر الدعوة في دار الحرب تظل في منظورنا التاريخي جزءاً من معتقد الدولة السياسي، بينما تثير عدة نقاط تساؤلات حقيقة حول مدى ارتباط الديني بالسياسي هنا، فبتتبع خريطة الفتوحات الاسلامية نجد أن هذه الفتوحات قامت في الشرق مثلا على امتداد "طريق الحرير" التجاري الشهير ذي العوائد الاقتصادية المجزية للدولة الاسلامية السياسية في المقابل لم يتم إيلاء اهتمام كبير بالتجمعات السكانية الاخرى شمال الخط والتي كان من الممكن نشر الدعوة فيها. إن النقاط التي تثيرها اعادة استقراء التاريخ الاسلامي تظهر وجود فجوة بين التأصيل الفقهي او الخطاب الفكري للمسألة وبين الواقع التطبيقي لها، ولعل "معاهدة البقط" التي أبرمها الصحابي عبدالله بن أبي السرح والي مصر خلال خلافة عثمان بن عفان مع الممالك المسيحية في منطقة النوبة بالسودان إحدى هذه النقاط التاريخية التي تستحق التوقف، فهذه المعاهدة التي استمرت ما يقارب اكثر من 650 عاما مما جعلها احدى أطول المعاهدات في التاريخ تكشف في بنودها رؤية تضع كل من الدولة السياسية الاسلامية والمملكة النوبية في حينه على قدم المساواة، فهي ليست مجرد "هدنة" تطول او تقصر كما حاول بعض الفقهاء ايجاد مخارج شرعية للعلاقة مع الدول الأخرى. هذه المعاهدة تضمنت بنودا تنص على ألا يهاجم العرب او النوبة أو العكس، وأن تتاح حرية التجارة والسفر والمرور لكل من مواطني الدولتين الاسلامية والنوبية في اراضي الدولة الأخرى، كذلك تسليم العبيد الهاربين من كل دولة للأخرى، اضافة الى عدد من البنود الأخرى التي نصت على وجوب حفاظ النوبيين على مسجد المسلمين في ارضهم وعدم التزام المسلمين بالدفاع عن النوبيين ضد طرف ثالث (اي انه ليس تحالفا عسكريا)، كما نصت المعاهدة على قيام دولة النوبة بإرسال عدد معين من العبيد للدولة الإسلامية كل عام في مقابل إرسال الدولة الإسلامية لمجموعة بضائع غذائية لدولة النوبة كل عام (اي انها تضمنت بنودا تجارية بين دولتين متساويتين) . للأسف فإن أغلب الاهتمام او ما كتب عن هذه المعاهدة ركز على قضية العبيد ودور الدول الاسلامية في تجارة العبيد وخلافه من المسائل المتعلقة بهذا الجانب، وبعيدا عن اخلاقيات المسألة وبالنظر بتجرد لبنود المعاهدة نجد انها انطلقت من رؤية مفادها ان كلا الدولتين على قدم المساواة كدولتين في فضاء متعدد الدول، ولا يمكن بالطبع الجزم بشيء من خلال قراءة قاصرة وسريعة لهذه المعاهدة ولكن في المقابل هي تفتح باب لانتفاء الرؤية التقليدية للدولة الاسلامية الدينية في مقابل ملامح دولة اسلامية سياسية أساس معاملاتها هو المصلحة السياسية وليس التوجه الديني. إن كون هذه المعاهدة على سبيل المثال قد أبرمها احد الصحابة في زمن احد الخلفاء تدعونا للتساؤل أيضا حول الفهم الذي كان لدى الأوائل فيما يتعلق بالدولة في الاسلام واهداف الفتوحات، ولعل في تراثنا الكثير مما لا يزال حبيس الكتب بحاجة لاستخراجه ومناقشته ودراسته، وتظل النقطة الاساسية هي أننا بحاجة لمراجعة رؤيتنا الاسلامية التقليدية فيما يتعلق بعلاقة الدول بغيرها، هذا اذا ما اردنا ان يكون ادعاؤنا بوجود نموذج إسلامي متكامل أمراً في محله، خاصة أن الربيع العربي أعاد التيارات والأحزاب الاسلامية لواجهة المشهد السياسي العربي، فهل ستكون هناك سياسة خارجية إسلامية؟ وهل هناك نموذج فكري وفقهي واضح للعلاقات الدولية في الإسلام؟