انعقدت في مدينة طنجة أخيراً (8-11/4/2009 الدورة الخامسة من «ملتقيات التاريخ» التي تنظمها «الجمعية المغربية للمعرفة التاريخية» ووزارة التربية والتعليم العالي والبحث الوطني. وخصصت هذه الدورة لموضوع قديم جديد ألا وهو «الحدود»، واتخذت شكل موائد مستديرة خصصت كل واحدة لمحور من محاور هذه الدورة: الحدوث الداخلية والخارجية في العالمين الإسلامي والمسيحي خلال العصر الوسيط، بين الدولة والأمة: مسألة الحدود في العالم الإسلامي، الحدود في المغرب الكبير: المجال والهوية الخ. وإذا كانت المائدة المستديرة الأولى قد مهدت بشكل جيد لموضوع الحدود بين العالمين الإسلامي والمسيحي بالاستناد الى ثنائية «دار الإسلام» و «دار الحرب»، وما كان فيها من مفاهيم وتعابير مثل «الثغور والتخوم»، فقد كانت المائدة التي نالت قدراً أكبر من الاهتمام تلك التي تناولت «مسألة الحدود في العالم الإسلامي: بين الدولة والأمة». وفي «ورقة تقديمية» لهذه المائدة انطلق المنسق د. عبدالرحمن المودن من ثنائية أخرى كانت تحكم تفكير وواقع المسلمين: باستمرار الأمة كوحدة متماسكة في الأذهان وانقسام الواقع السياسي لها بين كيانات متنافسة ومتصارعة منذ القرن الثامن على الأقل. والمهم هنا مفهوم «الدولة» الذي بدأ يستخدم بمعناه الجديد/ الحالي منذ حوالى 300 سنة، أي مع الانتقال من معنى عهد حاكم أو أسرة الى معنى «الرقعة الترابية الحاملة لساكنة مهينة والخاضعة لسلطة واحدة، ولكن من دون أن يعني هذا أن الواقع الذي تغطيه تلك العبارة لا يعود الى مراحل سابقة. وقد شارك في هذه المائدة المستديرة بأوراق عدد من الباحثين الذين تناولوا تبلور المفهوم الجديد للحدود في خضم الصراعات مع الآخر، الذي لم يعد كما كان في العصر الوسيط (الكافر) بل أصبح يشمل هنا المسلم المختلف عن المسلم الآخر، كما في حالات ايران والبلقان ومصر. وهكذا في ما يتعلق بالحدود بين الدولة العثمانية وايران الصفوية/ القاجارية يلاحظ المؤرخ المغربي المتخصص د. عبدالرحيم بنحادة الفرق الكبير بين تعامل الدولة العثمانية مع الغرب الأوروبي ومع الشرق المسلم. فمع الغرب الأوروبي كانت لدينا معاهدات كثيرة ترسم الحدود في شكل واضح بين الدول، بل ان المعاهدات الموجودة في الأرشيف العثماني تهتم بتفاصيل الحدود الى حد الوسوسة، في حين أن الأمر مختلف مع ايران الصفوية/ القاجارية. فصلح أماسية (1555م) الذي وقّع بين السلطان سليمان القانوني وشاه ايران طهماسب يعد حدثاً مهماً في العلاقات بين الدولتين المتصارعتين على أساس مذهبي ولكنه لا يظهر على شكل معاهدة ترسم حدوداً واضحة بل هو عبارة عن خطابات متبادلة تتضمن روايتين متضاربتين لأن كل واحد، من الطرفين كان يعتبر نفسه الحاكم الشرعي للأمة. ولكن حدود الدولة العثمانية مع الغرب الأوروبي، التي كانت واضحة في المعاهدات، لم تكن دائمة لأنها كانت تعكس موازين القوى بين الطرفين، حيث بدأت حدود الدولة العثمانية تنكمش منذ معاهدة كارلوفتس 1699. ولكن إذا كان الانكماش في البداية يعني تخلي الدولة العثمانية عن مناطق بغالبية مسيحية إلا أنه أصبح لاحقاً يعني تخلي الدولة العثمانية عن مناطق بغالبية مسلمة، وهو ما جلب مفهوماً جديداً (قومياً) للحدود داخل الأمة الواحدة (المسلمة). فعندما شعر المسلمون في البوسنة، الذين كانوا يمثلون الغالبية، بأن الدولة العثمانية لم تعد قادرة على حمايتهم من «الخطر» الصربي المتزايد في النصف الأول للقرن التاسع عشر لجأوا الى حمل السلاح والصدام مع «الدولة الأم» (المسلمة) لحماية البوسنة التي ارتبطت في ذهنهم بحدود طبيعية وثقافية معينة يجب الدفاع عنها ضد أي «خطر» من الجوار. وقد تكرر هذا الأمر في 1878 حين قرر مؤتمر برلين 1878 السماح للنمسا باحتلال البوسنة ضمن حدودها المعروفة، حيث تحركت مشاعر «البشنقة» للدفاع عن البوسنة بقوة السلاح مع تخاذل الدولة العثمانية أو تسليمها بالقرار الدولي، وهو ما أسس لاحقاً لحدود قومية داخل حدود الأمة الواحدة. ولدينا حالة مشابهة في العلاقة والحدود بين الألبان المسلمين والأمة/ الدولة العثمانية. ففي ما يتعلق بالغالبية الألبانية المسلمة (85 في المئة) فقد اعتبرت تحت تأثير الإسلام ان الدولة العثمانية هي دولتها أيضاً، ولذلك فقد انتشر التعبير العربي «دولة» Devlet في اللغة الألبانية في وقت مبكر ليصبح مرادفاً فقط للدولة العثمانية. وفي المقابل كانت الأقلية الألبانية المسيحية (15 في المئة) تنظر الى الدولة العثمانية باعتبارها دولة غريبة ومحتلة وتنتظر الخلاص من الدولة المسيحية المجاورة (هنغاريا ثم النمسا). وفي النصف الثاني للقرن التاسع عشر حدث انعطاف مهم في الوعي الألباني لدى النخبة مع انتشار الأفكار القومية في أوروبا وازدياد التحديات الخارجية على الأراضي الألبانية، وانعكس هذا الوعي في سؤال كبير: هل يمكن، وكيف يمكن التوفيق بين الأمة (الألبانية) ذات اللغة والثقافة الواحدة والدولة المشتركة (العثمانية)؟ وكان بين أهم من انشغلوا بذلك الكاتب الموسوعي المعروف على مستوى الدولة العثمانية شمس الدين سامي فراشري (1850 - 1904) الذي بلور فكرة ورؤية جديدة تحاول أن تجمع ما بين القومية الألبانية والرابطة العثمانية، وبالتحديد ما بين العمل في سبيل الأمة الصغيرة (الألبانية) والدولة الكبيرة (العثمانية). وقد طرح شمس الدين سامي فكرته ورؤيته تلك في مؤلفاته الأدبية، كما في مسرحيته الرائدة «بيسا أو عهد الوفاء» التي مثلت منذ 1874، أو في كتاباته التنظيرية مثل «البانيا الماضي والحاضر والمستقبل» الذي صدر في 1899 والذي اعتبر معه مؤدلج الحركة القومية الألبانية. إن التجربة الألبانية لصوغ علاقة جديدة بين الأمة والدولة كانت مهمة بالنسبة للعالم الإسلامي حيث انها تحولت من اجتهاد فكري الى مشروع سياسي يرسم حدوداً قومية للألبان ضمن الدولة العثمانية (ولاية ألبانية ذات حكم ذاتي في اطار الدولة العثمانية) ثم الى صراع مسلح بين الطرفين انتهى الى اعلان الاستقلال الألباني عن الدولة العثمانية في 1912. ويكفي هنا للتدليل على أهمية هذه التجربة أن ساطع الحصري (1886 - 1968) الذي يسمى «أبو القومية العربية» جاء الى ولاية كوسوفو موظفاً عثمانياً قلباً وقالباً، حيث خدم هناك خلال 1904 - 1908 قائمقاماً على أحد أقضية الولاية، وتأثر هناك بما شاهده من صراع مسلم - مسلم في سبيل فكرة قومية لم تكن واضحة في ذهنه. وفي ما يتعلق بمصر فإن مفهوم الحدود كان يرتبط كما في البلقان بالمخاض الفكري والسياسي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد بين هنا د. محمد عفيفي كيف أن حدود مصر كانت تختلف كثير من طرف الى آخر داخل المفكرين المصريين. ففي المناظرة الفكرية التي دارت في مطلع القرن العشرين بين محمد فريد وأحمد لطفي السيد رأى محمد فريد ان حدود مصر هي حدود الدولة العثمانية على اعتبار ان مصر هي ولاية عثمانية، بينما رأى أحمد لطفي السيد (أبو القومية المصرية) أن مصالح مصر السياسية تقبع داخل حدودها السياسية من دون أي تبعات. * أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت - الأردن.