عاشت الأجيال الماضية لا تستخدم كلمة الشكر والتقدير إلا لمن يستحقها وفي أوقات نادرة لأنها بالنسبة إلى تلك الأجيال مُكلفة وثمينة. ولا تخرج إلا في مناسبات معينة. كإنقاذ لحياة. أو رداً لمدح أو تقدير. أو ثناء أو دَيْن، فيقدم الشخص حينها الشكر والامتنان لهذه الأسباب، فكان أجدادنا وآباؤنا وأساتذتنا لا يقولون كلمة شكراً نهائياً إلا للطالب النجيب الذي يُحسن في الأداء ويحصلُ على أعلى الدرجات، أما أجدادنا الأفاضل رحمهم الله فكان يعزُّ عليهم أن يقولَوا لك كإبنٍ لهم شكراً إلاّ في أوقاتٍ معينة. ويومها تشعر بأنك نلت الرضا كل الرضا ولكن للأسف لن يمر وقت طويل على هذه الكلمة إلا وقد تم توبيخك لأتفه الأسباب!، وكان يمتاز آباؤنا الأفاضل ومعلمونا بأنك عندما تصافحهم يشدون على يدك أكثر بمعنى (أنك قد قمت بعملٍ غير مناسب يتطلب تصحيحه)، وأحياناً أخرى تعني (طلب الهدوء والتعقُل). هكذا كان الأقدمون في سُلوكهم وتربيتهم للأجيال، وأعتقد أن هذه هي أصول وأسس التربية السليمة والحديثة التي لم تَستخدِم العنف (المادي أو النفسي أو اللفظي). أما اليوم فقد انقلبت الموازين ومفاهيم الحضارة وأصبح استخدامها ضروري وأساسي فهي إتكيت العصر. تستخدم عدة مرات يومياً. فنقولها للسائق أو الخادم أو الحارس وهي تعتبر بمثابة دافع له وتعزيزاً لسلوكه واجتهاداً في أدائه مثلما يحدث في دول أوروبا وأمريكا، فقد تعلمنا الكثير والكثير ممن تم اختلاطنا بهم من الأجانب والمُقيمين وما تعلَّمناه من سفرنا وقدومنا وما نقرأه من قصص وأساطير كانت كلُّها تحمل كلمة الشكر والتقدير لأبسط الأشياء وأحياناً أتفهها، وأود أن أذكر هذه القصة مثالاً لما تعودنا عليه من آباءنا وأجدادنا في تربيتنا وبين ما هو مطلوبٌ ومفترض أن نمارسه في حياتنا اليومية. في إحدى سفراتي لزيارة أبنائي المقيمين في بريطانيا لعدة سنوات ركبتُ بعد تسوقي مع زوجتي في مدينة لندن حافلة النقل الجماعي لتُوصِلُنا إلى حيث نسكن في خارج لندن، وعندما اقتربت من المنزل طرقتُ جرس الوقوف إيذاناً بطلب النزول من الحافلة، بالطبع أخذ السائق جانباً، وقمنا بالنزول من الحافلة وشكَرتْ زوجتي السائق. إلا أنني لم أقدِّم له الشكر، فقال لي لماذا لم تتعلَّم أسلوب التعامل مع الآخرين؟، وقال في عصبية أنتم المُلوَّنين لا تعرفون إتكيت الحياة! شعرتُ حينها بمزيد من الإحراج والخجل والألم أيضاً والانتقاص في نفسي أمام رُكاب الحافلة، قلت لزوجتي حينها هل سمعتي ما قاله السائق؟ فردَّت أنت لم تقدم له الشكر لأن الإتكيت هنا في بريطانيا وأسلوب الحياة والتعامل يفرض عليك استخدام كلمات الشكر والتودد واللطف لكل من تتعامل معهم، فكلمة اسمح لي. وكلمة عفواً. وكلمة ساعدني. تقال وتردد عدة مرات في اليوم لمن تتعامل معهم، ثم أردفت زوجتي تقول أنا أعرف أننا لا نستخدم مثل هذه العبارات في بلادنا مع الناس الأقل أهمية أو من نسميهم بالبسطاء في نظرنا، فشفافية التلطف والتودد للآخرين معدومة في بلادنا لأننا لم نتعلمها ولم نستخدمها بيننا وبين أبنائنا، فالمدرسة والبيت والشارع يتحمَّل مسؤولية تعليم الأبناء الإتيكيت!. أما الدرس الثاني من هذه الرحلة التعليمية لممارسة إتيكيت التعامل مع الآخرين فكانت يوم سفري من بريطانيا عائداً إلى بلادي، فقلتُ لابني.. اتصل بالتاكسي ليحضر حتى يوصلني للمطار.. وعند حضور التاكسي وكان سائقه من إحدى الدول الآسيوية الفقيرة.. قلت لابني نادي السائق ليأخذ الحقيبة ويضعها بالسيارة؟! ثم عاد إليَّ ابني مبتسماً ضاحكاً.. قائلاً: السائق يقول: أنت لست في بلدك (السعودية). عندما تخرج أنت بنفسك تحمل حقيبتك وتضعها بالسيارة وقال بكل تؤدة وأدبٍ وتودُد ولطف بعد أن ركبت السيارة معه وشاهدني رجلٌ كبير ومُسنّ. إنك لو قلت لي لو سمحت ساعدني بوضع الحقيبة في السيارة لقمتُ بمساعدتك حينها على خير وجه؟!. لكنك كُنت تطلب باستعلاء أن أضعها في السيارة!، وكأنني مستخدم لديك. حينها اعتذرت منه أشد الاعتذار. الهدف مما سبق ذكره أننا لم نعد نتعامل مع بعضنا البعض داخل أسوارٍ مقفلة فلابد لنا اليوم أن نخرج من قوقعتنا لنرى ما في العالم من إتيكيت وتَطَبُعْ وحضارة ورُقي في أسلوب التعامل ومفاهيم حضارية يجب أن نعلِّمها لأبنائنا بالبيت قبل المدرسة، كما يجب على المناهج الدراسية أن تتضمن مثل هذه المفاهيم الاجتماعية الهامة والضرورية في عصرنا الحاضر ويُفرد لها فصلٌ في المناهج خاص بكيفية التعامل مع الآخرين وأن يستقيها الطلاب في التعليم الابتدائي عن طريق القصص والروايات القصيرة التي تشتمل على مثل هذه المفاهيم الحضارية وتركِّزُ عليها في بناء أجيالٍ قادمة فلم يعُد الانغلاق على بعضنا البعض مستحب في عصرنا الحاضر.