حقيقة لم أكن متشائماً أو في ريبٍ من أمري. ولكنها حقيقة أعيشها كما يعيشها غيري.ففي مجتمعنا الملتزم لم تعد الحياة كما كانت عليه في الماضي بعطرها ونسيمها ولكنها إرادةُ الله التي تُغير ولا تتغير في هذا الكون، بدأتُ أشكُ في كل شيءٍ حولي وبجانبي، وفي مؤسسة كبيرة أو صغيرة أدخلها، أحسُّ باللوعة والألم والغبن حين يُلاوعني ذلك المسؤول ولا يعرفُ ظروفي ولا يُقدر سني ولا يرحم حالي. بدأتُ فعلاً أنقطع عن كل من هم حولي وأقرب الناس إليَّ، لم أشك في وطنيتي ولم أشكُ في أن هذه البلاد حياتي ومماتي، لكنني في نفس الوقت بدأتُ أشعر بأنني غريبٌ عن هذا المجتمع دخيلاً عليه، حيث لم يُقدر عطائي طِوالَ حياتي . إنني أعيش غربة الزمان والمكان. غربة النفس وعزلة التنكر وإحباط الذات، كلها عوامل لا أقولُ نتيجة الإكتئاب ولكنها نتيجة الواقع المرير، حقيقة زمانٌ كأهله وأهله كما تُرى!. لم تعد الوعود تفي بحاجة الإنسان في هذا العصر فالكلمة الطيبة أصبحت نادرة والضحكة الباهتة تنتشر وأحياناً الصفراءُ منها والمُخادعة وغالباً المستهترة! أسئلة تراودني كما تُراود أبنائي وأصدقائي. لماذا نعيشُ هذه المعاناة؟ لماذا لا نبحثُ عن الخروج من هذه الأزمات؟ بدأت أشكُ في أقلام الكتَّاب وأجدُ فيما بين سطورها الألم والعناء والخوف من الأحلام. أصبحت أعيشُ أوهاماً.. الكثير من أقاربي وأصدقائي رحلوا مع أبنائهم المبتعثون خارج البلاد لا خوفاً على أبنائهم بل رحمةً بحال عيشهم ومستقبل حياتهم.. إن التغير الاجتماعي والذي يُسمونه تطور دخل على الإنسان واكتنف نفسيته بكل أنواع الطيف المُؤلم، لم يعد الاكتئاب سمة من سمات هذا العصر فقط، ولكن أضف إليه الشيزرفونيا والانفصامٌ في شخصية الإنسان التي تخترقُ طبيعته وتُغير من اتجاهاته وقيمه. أصبح يضيق بالكثير ويحبسُ حرية الصغير قبل الكبير، الكلُ يحاول أن يجد مكاناً يتناسب مع دخله الذي كاد أن يصبح معدوماً مهما كان دخل الفرد الوظيفي، أصبحنا نرى الكثير من المنغصات التي تُكدر على الإنسان صفاءه ونقاء سريرته. إخلاصنا لوطننا لم يكن بالدرجة التي كان عليها أسلافنا بسبب ارتفاع مستوى المعيشة وقلة الفرص الوظيفية وانتشار البطالة والمحسوبية وارتكاب الجرائم والمحرّمات . فمن يعيدنا لسيرتنا الأولى من التعاون والتعاطف والتماسك والتراحم؟ إن غياب المسرح الاجتماعي والتربوي يضعف القدوة الصالحة ويهمش دورها، رغم تلك الأدوار الكبيرة التي تلعبها الصحافة والإعلام والبرامج الدينية المؤثرة، إلا أننا لن نرى ذلك التأثير حتى نغير ما بأنفسنا تجاه أرضنا ووطنيتنا وطباعنا ومفهوم حياتنا وديننا وعقيدتنا، فمن يرجعنا لماضينا ويعيننا على حاضرنا.