يعيش طلبتنا بالخارج ما بين الاستقرار وهواجس العودة. وهم دائماً سفراء لبلادهم غيورون على مصالحهم وتراثهم وثقافتهم أمناء على عقيدتهم محافظون على تراثهم وقيمهم وعاداتهم. هدفهم من الغربة نقل العلوم والتقنية والتكنولوجيا إلى بلادهم. يعيشون دائماً خلية عملٍ دؤوب بين البيت والجامعة والمكتبة. إنهم يبحثون، يطالعون، يجمعون ما قرؤوا ويلخصون ما فهموه. هدفهم نبيل، وغايتهم سامية. وفوق معاناتهم خارج بلادهم أثناء ابتعاثهم يعودون للأسف الشديد إلى بلادهم ليجدوا نوعاً آخر من المعاناة والمكابرة والتعقيد، يبحثون عن وظائف تتناسب مع تخصصاتهم ولكن يجدون من يقفُ لهم بالمرصاد من أعداء النجاح يضعون العراقيل أمامهم فلا وظيفة شاغرة فكل طلبات التوظيف تسبقها عبارة محبطة للخريج وشروط قاسية على كاهله وهي عبارة: (على أن يكون لديه خبرة لا تقل عن 5 سنوات)، هذه هي في حد ذاتها معاناة للخريج وأسرته مما يضطر الكثير منهم للأسف للبحث عن عملٍ في دولٍ مجاورة خارجية التي تتلقفه بدورها بكل ترحيب وتظل بلاده في حاجة ماسة لتخصصه الدقيق الذي ابتُعث من أجله. أود أن أوضح هنا معاناة البعض من أبنائنا المبتعثين خارج بلادهم، فهم يعيشون آمالاً وأحلامًا معلقة وأحياناً تظهر أمامهم بعض المواقف المحيِّرة والحرجة والمقلقة تجعلهم يفضلون العودة على الاستقرار، هذه بعض عناوين هموم الطالب المُبتعث. طلبتنا وأبناؤنا موزعون بين أقاليمٍ متعددة الحضارات والثقافات والعادات هذه المتناقضات المتقاطعة تُظهر لنا الأسئلة المزدوجة التالية: كيف يعيشون حياة الغربة؟ كيف يكتسبون اللغة والتكيف مع المجتمعات المتغايرة؟ كيف يتعايشون فيما بينهم؟ كيف تُعامل المُلحقيات التعليمية تخصصاتهم؟ أحياناً بعد بدء الطالب مشواراً لا بأس به في تخصصه تُطالبه الملحقية التعليمية بتغيير التخصص، وهذا في حد ذاته كارثة! وهناك تصرفات تصدر من بعض المشرفين على الطلبة في الملحقيات. تسيء إلى نفسياتهم وتعكسُ صدوداً عن الاستمرار في الغربة. فإذا لم تكن لدى الملحقيات صلاحيات مرنة كافية تساعد الطالب على الاستمرار في التخصص والبعثة فلاشك تكون المعاناة متشابهة والمشكلة هي ذاتها والمتضرر الوحيد هو الطالب. الذي يتُوه في دائرة الاغتراب والعيش خارج حدوده في محنةٍ في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية وقلّة فرص العمل في بلد الإقامة أو حتّى بلاده وصعوبة التعايش مع المجتمع الغريب في ظل لغة ركيكة ومجتمع مختلف ديناً وعادةً وتقاليداً. تبدأ هموم الطالب بمجرد أن تطأ قدماه أرض بلد الابتعاث، وهذا ما حصل لي أثناء ابتعاثي قبل ثلاثين عاماً إلى أمريكا. فهو يأتي إليها محمَّلاً بأكياسٍ من الأحلام وكراتين من الطموحات مخلفاً وراءه أسرة تحلُم هي الأخرى بأن هذا الابن سيأتي لها بمفاتيح السعادة والحياة الكريمة. وحين يصلُ إلى هُناك تصطدم كل هذه الآمال بجدار الواقع ومنذ البداية تبدأ رحلة المعاناة ويكون العائق الأول أمام الطالب هو السكن الذي يرتبط بعضه بشروطٍ قد لا تتوفر عند هذا أو ذاك الطالب، فهو عدا السكن يبحثُ عن شخصٍ يضمنه ويكفله ويمكن أن يجد زميلاً يتوافق معه في السكن فهو يقضي معه أياماً وليالي في أحد الفنادق الرخيصة أو يتخذ سكناً مؤقتاً عند قريب أو صديق. أما أخواتنا المبتعثات فمشاكل بعضهن أكثر وأصعب وأحرج أحياناً تحكي إحدى قريباتي المبتعثات إلى بريطانيا تقول لي أول مشكلة واجهتها في السكن في بريطانيا هي أنه لم يكن باستطاعتي إيجاد شخص يضمنني في السكن وهي فتاة محجبة متمسكة ملتزمة. إنها واجهت تحديات ومشاكل كثيرة بسبب حجابها وتحديداً إيجاد السكن المريح. تقول لي بكل أسف: استأجرت شقة قريبة من الجامعة لكن صاحبة البيت استمتعت بأذيتي حيث منعتني من استقبال إخواني القادمين من بلدي وكانت تقومُ بتفتيش الغرفة يوميّاً وتفتيش أغراضي وملابسي في غيابي أو وجودي. وكانت تأمرني بأن أخلع حذائي قبل الدخول للشقة لا أدري لماذا تعاملني هكذا. هل لأني محجبة أم لأنني مسلمة!؟ تقول لي: تركتُ البيت فقد كان من الصعب تحمل شروطها. أبناؤنا المبتعثون يحاولون جاهدين أن يخلقوا جوّاً حميماً فيما بينهم وخصوصاً أنه لا طعم للمناسبات الدينية والأعياد هناك كما عشتها وأتصورها في بلادي وبين أهلي. فآلام الغربة كئيبة ومُوحشة أحياناً ومقلقة عند بعض المواقف كمرض الوالدين أو وفاة عزيز أو قريب في بلدي. الحنين للوطن لا يُوصف والشوقُ للأهل لا يعادله فرحة أو سعادة. أبناؤنا يعيشون بالقليل ويحملون الكثير من الأحلام وأولها حياة الاستقرار والزواج بعد التخرج وتكوين أسرة سعيدة في ظل دخلٍ مادي يكفل للخريج حياة كريمة.. ولكن هيهات للأسف أصبح الخريج يعيش طوال حياته في غربة في بلاده أو خارجها قبل الابتعاث أو بعده.. قلقٌ وتوتر وإحباط.. فهل نعي نحن الآباء والمسؤولين والمختصين بالتعليم العالي والمسؤولين عن التوظيف مشاكل أبنائنا المبتعثين. ونعمل على تذليل جميع الصعوبات والعقبات أمامهم. حتى يعودوا إلى بلادهم ليجدوا الوظيفة المناسبة تنتظرهم ليستطيعوا من خلالها خدمة وطنهم فالشباب هو عماد الوطن. هذا ما آمله من الجهات ذات العلاقة في بلادنا فيسروا ولا تُعسروا وبشروا ولا تُنفروا.