ونرجع شريط الذكريات نتوقف في محطات مضيئة، الحارة بكل عبقها، والمدرسة بكل جلالها، والكتاب بكل عراقته، صور تنبض بالحياة أرى أقراني ونحن متلازمين لا نفترق بين أزقة حارة المظلوم البقعة التي رأت عيناي أول ما رأت مبانيها واستنشقت أنفي أريجها. أين أنا اليوم من سائر قوم رحلوا وتركوا بصماتهم شواهد على كريم سجاياهم.. كبير الحارة ميسوراً كان أو معسراً يكن له الجميع احتراماً وله مكانته في مجتمعهم وقلوبهم.. يستشار ويستشير، يجمع الغادي والرائح.. على حنبله المفروش كرماً على دكة داره يتوسط عقد رجال يلتفون حوله كالسوار بالمعصم.. تارة يفصل بين خصمين وأخرى ينصح متجافيين. قال لي أحد مشايخي- رحمه الله - إننا لم نعرف قط مركز الشرطة، كنا نحتكم إلى من هو أكبر منا .. كانت هناك أسماء رنانة نذروا أنفسهم لقضاء حوائج الناس.. أولئك قوم أحبهم الله وحبب الناس إليهم. جدة بحواريها الأربع.. بين حارة الشام وحارة اليمن حارة المظلوم .. تلك الحارة التي تسكن قلبي وإن كنت يوما أسكن قلبها مطمئناً بين عائلتي وجيرتي، كنت أقضي سحابة يومي ألعب وألهو مع أقراني.. لذة فكرية ومتعة مازالت في القلب منها بقايا. أزقة حارة المظلوم لها طابع خاص، تفوح منها رائحة الأبازير الهندية وقلي الفصفص والحمص والمكسرات من مقلة عبد رب الرسول، وهناك مطبخ العم فروان وسوق الجامع بمحلاته المرصوفة التي تؤدي إلى سوق البدو والصاغة.. ذكريات جميلة عذبة أعذب منها ما عايشته بكل وجداني وأحاسيسي ألا وهو نبل ونخوة أولاد الحارة ورجولتهم.. كان الواحد منهم يحمل لوح الخبز على أم رأسه إلى الفرن مفتخراً وكأن على رأسه تاج.. فخره بأسرته وتنشئته ونسبه وحسبه واعتزازه بحارته وأقرانه وارتباطه بتقاليد الآباء والأجداد في صلة وامتداد موصول بحبل متين من الروابط والوشائج. فرن العم محمد عبدالعال الصعيدي بحارة المظلوم.. دكة متواضعة جوار الباب الرئيسي للفرن تجد العم محمد عبدالعال جالساً في هيبة ووقار بعد فراغه من عمله تميزه بصوته الجهوري الذي تعرفه كل الحارة.. ثوبه ومنشفته على كتفه وحبيبات من العرق على خده كأنها حبات لؤلؤ منظوم.. وبين الفينة والأخرى يأتي صوته: يا ولد راقب النار.. لا تلدع العيش.. العمل أمانة وإخلاص.. يا عبده فينك يا واد خذ هذه الألواح وديها لبيت باديب وأبو السنون، وسلامة والناظر.. وفتح عينك على الفرن. وتأتي احدى حرائر الحي في خجل واستحياء تقف بباب الفرن فيسرع العم محمد يأخذ منها عجينها ويجهزه للخبز دون أجر. ببساطته المعهودة ووجهه الصبوح لا يجرؤ أحد من أولاد الحارة على أن يتعدى مركازه أما مخبزه ليس رهبة أو خوفاً بل احتراماً وتوقيراً.. رحمك الله يا عم محمد وكل أقرانك من ذلك الرعيل الطيب.