** أراد أحد جيراننا والراوي أحد الاصدقاء أن يمنح نفسه وبيته وأسرته ألقاً مختلفاً، عندما فكر في صناعة أمسية أسرية تمتد إلى ما بعد منتصف ليل أحد أيام نهاية الأسبوع، ويكون الحدث الرئيسي فيها (جلسة شواء) لذيذة، فوق سطح البيت، على أن تحفها القفشات والمزاح وحديث السمر حول موقد الشواء، هكذا كانت (الحبكة الدرامية) للأمسية، كما رسمها في ذهنه ذلك الجار، وبدأ فعلاً في تنفيذ أولى خطواتها، منذ أن غذّ السير مبكراً إلى (حلقة الغنم) حيث ابتاع تيساً (جذعاً) من النوع الذي (ولا أروع)!!. ** صاحبنا حتى اللحظة لم يطلع أحداً على المفاجأة، عدا زوجته التي همس لها بالفكرة، وبدأت متحمسة في الظاهر بينما أخفت في أعماقها حدساً سيئاً بأن الفكرة لن تصل إلى بر الأمان، ومنذ غياب قرص شمس ذلك اليوم والرجل يوالي تجهيز مكونات أمسيته المفاجأة، من خلال تجهيز موقد الشواء، وتقريب اللحم، وإعداد المفارش، ثم صاح في أولاده وبناته أن هلموّا إلى ما سوف يثلج صدوركم!!. ** وعندما بدأ شتات الأسرة يأتلف، وبدأت أولى روائح الشواء تملأ المكان، صاح أحد الأبناء الصغار في أبيه طالباً منه أن يسرع لشراء عشاء لهم قبل أن تغلق المحلات أبوابها، وللوهلة الأولى لم يصدق الأب ما سمعته أذناه، وظن أنه حلم ليل صيف، فتوقف مذعوراً عن ملاحقة أسياخ الشواء فوق لهيب النار، والتفت إلى ابنه قائلاً: تريد عشاء (من بره)؟!!. ** الابن الصغير رد ببراءة وثقة: نعم (يا ابويه).. ثم التفت الاب الى بقية ابنائه من الاولاد والبنات، قائلا: وأنتم.. قالوا: ونحن كذلك نريد عشاء (من بره).. ثم عاد (ليكمل الناقص) نفس الابن الصغير بشقاوة عذبه: (الله يخليك يا أبويه.. شاورما وخليّه يزودّ الشطة!!). ** الاب لم يتحمل ما يسمع ويرى، وكاد يجنّ.. ثم صاح قائلا: أحضر لكم ذبيحة طازجة، وأحاول أن أقدمها لكم وجبة شواء نظيفة، ومن انتاج البيت لا المطاعم.. ثم تقولون لي: نريد عشاء (من بره).. ويقول الراوي: إن الرجل من فرط غيظه قد راح يهرول كالمعتوه من درج البيت الى الشارع حتى يفضفض إلى أن كاد أن يمزق ثيابه خارج البيت، كمداً وغيظاً مما حدث!! ** اللافت في هذه الازمنة الاخيرة أن أحداً لم يعد يأكل من صناعة بيته إلاّ في حالات قليلة، وخصوصاً في ايام نهاية الاسبوع هذا بالنسبة للكبار، اما الصغار فإن اكثر من نصف طعامهم فيما يبدو هو من خارج البيت، حتى أن الوجبات السريعة والمعلبة وما تفرزه المطاعم، قد تحول الى ثقافة سحرت هذه الفئة العمرية من ابنائنا بل والشباب بشكل عام، حتى إن (أكل البيت) أصبح عند أحدهم كما لو كان (منقصة) أو عيباً، وفيما لو عرف ذلك اصدقاء الشباب، فلربما صاروا يعيرونه بهذا التوجه! ** لعنة الأكل من خارج البيت ثقافة سلبية عالمية، بدأت قبل عهد العولمة ثم أججتها العولمة والانفتاح العالمي، وصارت مع الاسف سلوكاً، يكاد يسرى على الجميع، حتى إن عدداً من الزوجات اليوم صرن يستنكفن من دخول المطبخ، ومن المبادرة الى صناعة اكلة - معتبرة، يأكل الزوج والاولاد أصابع أيديهم وراءها!! وأدى ذلك الاستنكاف الى جهل اولئك الزوجات بتطوير قدراتهن في "الطبيخ" وبدلاً من التقدم للأمام في هذا المجال، حدث العكس وصار ما يطبخه عدد منهن من النوع الذي "يسد النفس". ** في إحدى الجلسات الخاصة، سرى حديث بين نفر من الاصدقاء حول هذا الموضوع تحديدا وراح كل واحد يدلي بدلوه حتى إذا ما قرر احد الجالسين في لهجة اصرار وثقة قائلا: "اتحدى من يتعشى في بيته هذه الايام" وقال: نعم نحن نتغدى في بيوتنا بحكم اننا متعبون وعائدون من اعمالنا، اما العشاء فمن ذا الذي يتعشى في بيته دائما هذه الايام إلا فيما ندر؟!! [email protected]