كنا نعتقد أن الرجال لايبكون وكان إذا بكى طفل نهره ذووه قائلين : لا تبكي .. فأنت رجل !! ولم يمض زمن طويل على هذا حتى رأينا البكاء يطال الرجال الرجال ، حتى الطاعنين في السن منهم . يبكون ، ويتهدج صوتهم ألماً ولوعة عبر كل شاشات البث العربية كل يوم ، يُعرض علينا هذا عبر مشاهد تستقطر الدموع دماً. ونرى النساء في تلك المشاهد يواسين الرجال وقد تحجرت احداقهن ، وكأنما هنّ قد تجاوزن مرحلة البكاء الى مابعدها من يباس . نحن لا ننكر البكاء على احد كحاجة ماسة نستجيب لها اذا ما جاشت مشاعرنا حزنا او فرحا، لا تختلف في هذا رجالا كنا او نساء ، غير اننا منذ وعينا عرفنا ان الرجال لايبكون، وكان علينا ان نصدق هذا ، وان نفزع ايما فزع حين يبكي الرجال، اولئك الذين تجذر فيهم البكاء الان في هذا الزمن كحاجة ملحة يحتاج اليها رجالنا الاشداء احتياجهم للماء والهواء، ويلازمهم كرد فعل لحالة مستدامة من القهر الذي سكنهم منذ ان اضحت الفواجع خبزهم اليومي. اي زمن هذا الذي نمر عبره ولانتجاوزه ، فنشاهد الخراب والدمار والحرائق والجثث تعرض علينا كل يوم وفي كل بيت وبكامل التفاصيل ، تتكرر امام عيوننا وكأنما لتقتل فينا ردود الفعل الطبيعية ازاء مشاهدتها، ولتصبح امرا عاديا نتلقاه ولايستثير فينا المشاعر، فتقتل المشاهد انسانيتنا وتجعل من القتل والموت والخراب والدمار امرا غير ذي بال ، وهذا بحد ذاته والذي يبدو عفويا يأتي ضمن ممارسات تهدف الى خلق انسان مقتول المشاعر لا يعبأ بما يدور حوله. ربما لا يدري الاعلاميون ان بث تلك المجازر والحرائق والتدمير وسفك الدماء يعبئ النفوس بشتى ردود الافعال، والتي هي على طرفي نقيض ، فإما ان يكون رد الفعل فوريا انتقاميا متهورا، واما ان يتشكل جموح باتجاه العنف ، او ادارة الظهر لكل مايهم الوطن والانسان والقيم باتجاه الانفلات الاخلاقي والقيمي، وعدم الالتزام تجاه الامة والمجتمع بأنه مشاعر ايجابية رائدة، وليصبحوا موغلين في خصوصيتهم/ مقتصرين على حصر قيم الذات في لذة خاصة تحاصرهم بحيث لايتسجيبون لأي امر قيمي خارج ذواتهم. ونحن ازاء هذا الانيهار والانحدار ، لانملك الا ان نقول للاعلاميين: كفوا عنا تلك المشاهد ، فليس بأيدينا ان نفعل شيئا. وان كان لاحد ان يفعل فنحن من ورائه بكل ما نملك من مال ونفس. فربما لا يدري اولئك ان بث تلك الممارسات الوحشية الامريكية والاسرائيلية والانجليزية، سواء في العراق او فلسطين او افغانستان او السودان او لبنان، انما تهزم فينا الشجاعة والمروءة والكرامة ، ويصبح رجالنا اشباه رجال يتشكل لديهم القهر ثبورا بعد ثبور، برغم النوايا الحسنة التي ربما تقف وراء بث تلك المجازر ليراها الصغار والكبار ، لأن مشاهد حوداث القتل والدمار تولد مئات الاسئلة لدى الجميع. وعدم العلم بالشيء خير من العلم به، والنكوص عن مقاومته ومنعه واستئصال اسبابه، فالموت الساكن في شاشاتنا الفضية ينتقل الى ذواتنا. فلماذا نشاهد ونحن قاصرون ومقصرون ؟ نعود فنقول : إن بكاء طفل يعني أنه جائع او مريض، اما بكاء شيخ طاعن في السن، فهذا يعني انيهار أمة !! مدير عام وزارة التخطيط / متقاعد فاكس: 6658393