الإقامة في المؤقّت والزائل تجربةٌ حياتيّة يعبر بها أحدنا، إنْ باختيار أو اضطرار. وبين هذيْن الحدّيْن تتلوّن التجربة وتلقي بظلالها على الآتي؛ ذكرى من النعمة والهناءة.. أو غصّات من الحزن تثقل على الروح وتعكّر مجرى الحياة إلى الأبد. فإذا بالشخصية تجتاز برزخا لا تملك معه قدرةً على التراجع أو تغيير المسار. قدمان مطويّتان في حكمٍ مطلق لا تستطيعان إلا التململ ونفثَ الحسرة على "صورة" هشّة هشاشةَ ما هو عابر ومتبدّدٌ وعصيٌّ على القنص والاحتواء. بين شرارة الحنين التي تمثلها لحظة الإقامة في المؤقّت بغيومها الناعمة، وبين حريق الإفاقة التي تمثّلها اللحظة التالية بتمدّدها مصيرا وهاوية، تكتب بدريّة البشر روايتها "الأرجوحة" (دار الساقي، بيروت 2010) فتدخل النايَ تستقطر أوجاع المرأة وتكثّف مرارتها رغوةً متخثّرة نقرأ فيها ليلَ التاريخ بركوده وظلامه، ونعاين ثقافة قارّة منبتة عن التحوّل في كلّ ما يتّصل بالمرأة. وفي قلب هذه الثقافة ينضج العسف ويتعالى أنينُ الغرقى، فتتكشّف صفحة الخراب. تختار الكاتبة ثلاث نساء؛ ثلاثة نماذج تفصل بينها الحدود الاجتماعية المتوارثة بأحكامها القيميّة التي تفرز حسب الأرومة وسلالة النسب (قبيلي؛ خضيري؛ عبد) لكنّ هذه الحدود تذوب وتفقد معياريّتها، بجامع "نون النسوة" وما يصدر بحقّها من أحكام تفرض السطوة والاستغلال؛ الهيمنة التي تصادر القرار، وترسم الجسد في حدود الاستمتاع الذي يحمل الرجل ساعة توقيته: متى يبدأ؟.. متى يرتوي فيشبع؟.. متى يملّ فيهجر؟.. في قبضته الجسد والوقت وعن يمينه ثقافة تزكّي تصرّفه وقرارَه بالهجر وعن يساره موروثٌ اجتماعي يبرّر ويتقبّل، فيما المرأة تصطلي بثقافة الطاعة وقانون العيب، وتكتظّ بظلمةٍ أفسح منها القبر. إن تركيب علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع الشرقي بذكوريّته الطاغية ومجتمع المملكة جزء منه ينهض على القوّة التي تعني السلطة والإجبار وعلى المنحة القابلة للاسترجاع عند طرف، في حين أن الطرف الآخر تبعا لهذه المعادلة محكومٌ بالضعف وبالاستلاب وبالدونيّة ليطفر سؤال الاستنكار الدامي (... لماذا تجيد الثقافة صُنع أقفاص من حديدٍ وأكفان وحلقات وحبال للنساء فقط؟). في هذا المُركّب المضطرب لا تمضي العلاقة إلى استقرار، فالهيئة الأولى وإنْ رُسِمتْ بعناية وظللتها مشاعر الحبّ والحنان ومنحتْ أصحابَها كنوزا من البهجة وعطايا من اللذائذ؛ سرعان ما يدركها العطب ويسري إليها التلف. العالم الفردوسي الرَّحِمِي المسكون باللطف والحميمية فاصلةٌ صغيرة لا تتريّث إلا قليلاً. تعانق السحاب وتمتطي الغيم "شعرتْ بأنها تركب الأرجوحة التي تطير بالجسد عاليا، فينفتح القفص الصدري، ويخرج قلبها مثل طائر يحلّق في فضاء أزرق مرسوم بالغيم ومُضاء بالشمس، ينفث النسيمُ نسماته في وجه الكون البهي". العالم الفردوسيّ زمنُ الأرجوحة. إنما هو هدهدةٌ بين ظلاميْن، هدنةٌ تحسب المرأة أنّها عناق أبدي لن يفتر ولن تتحلّل منه اليدان. ينطوي فراش الأحلام وترتفع سياط الصحو الموجعة "قاع الهاوية يلمع". ينفتح جرح الخسارة، ومعه يُشرَعُ بابُ الترميم. محاولةٌ التعويض تجري بعيدا عن الصحراء، في مدينة جنيف؛ في طبيعةٍ ليست من غبارٍ ولا جفاف؛ في مجالٍ علاقتُه سويّة وبالتراضي والوضوح والانفتاح. مكانٌ ملائم لاستعادة الروح وانطلاقة الجسد واختلاس الزمن الفائت بنعماه مع "الرجل". لكن جنيف هي الأخرى "أرجوحة" بزمنٍ مستقطع منذور للخفّة وللتصرّم. الصحراء هي الحقيقة الصلدة الباقية بثقافتها وعاداتها وتقاليدها بكاشف رواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير التي حملتْها معها مريم الحور إلى جنيف وأضاعتْها هناك وفي طريق العودة اقتنت نسخة ثانية. كأنما هذه الرواية مدام بوفاري ببطلته "إيما" عنوانٌ آخر ل "أرجوحة" تنتهي بالفشل والخراب رغم الاستجابة لصوت التمرد وتجربة الخروج على العُرف الاجتماعي. (الهبوط من الأرجوحة) هو المصير، وفي القاع تكبر الجراح وتتكوّم الضحايا؛ جرساً من عويلٍ ولا ثمّة من يسمع. من يجرؤ على النظر في قعر الهاوية؟ من ينتشل بحسب سان جون بيرس "ورقة تائهة لا تزال تبحث عن الجبين الإنساني"؟. * كاتب سعودي