أبدأ بما جاء في المعجم الوسيط في مادة (شاع) مع حذف المعاني التي لا تمت إلى موضوعنا الحالي بصلة. (شاع) الشيء شيوعا وشيعانا ومشاعا ظهر وانتشر، ويقال شاع بالشيء أذاعه، و(أشاع) الشيء و(أشاع) به أظهره ونشره، و(شيّع) الزامر نفخ في مزماره وردد صوته، و(شيّع) النار في الحطب نشرها فيه وقواها، و(شيّع) الغضب فلانا استخفه وضرمه. و(الإشاعة) الخبر ينتشر غير متثبت منه، و(الشائع) المنتشر، و(الشائعة) الخبر ينتشر ولا تثبت فيه، وجمعها شوائع، و(الشاع) الشائع، و(الشاعة) الشائعة. وبالتالي فإن الإشاعة والشائعة والشاعة كلها بمعنى واحد. ودراسة هذا الموضوع هو مما يُعنى به أهل التربية، لأن هدفهم تنمية تفكير الأبناء والطلاب ليكونوا حذرين مما يُشاع دون تثبت، فضلاً عن أن يكونوا هم ممن ينشرونه. وإن الاستعداد لتقبل الإشاعة أو قابلية الانخداع بالإشاعة هو نتيجة مباشرة إلى عدم تلقي العناية الكافية في مرحلة التربية. والإنسان البالغ الذي ينخدع بالإشاعات هو في الحقيقة ضحية لكل من ساهم في برمجته ثقافيا وفكريا ووجدانيا. فإذا كان المدرسون والمدرسات يركزون على الحفظ دون تفكير, وإذا كانوا لا يسألون طلابهم أسئلة تتطلب تقديم الدليل، أو كانوا لا ينبهونهم إلى ضرورة تعليل كل فكرة يقولونها أو يتبنونها, أو كانوا لا يطلبون منهم شرح الأسباب لأي شيء حصل، فماذا نتوقع من هؤلاء الطلاب؟ وماذا نتوقع منهم عندما يكونوا بالغين راشدين؟ إذا كان المنطق السائد في المدرسة هو أن يقبل الطالب كل ما يقوله المعلم دون مناقشة، وكأن الأستاذ يردد: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، وإذا كان الولد في البيت يوصف بالولد المطيع لأنه لا يناقش في أمر قاله الأب أو الأم فما هي النتيجة المتوقعة من هذه التربية، وما هو الموقف المتوقع من أي شائعة يسمعها في طفولته أو مستقبلاً؟ عندما تناقش موظفاً بأن ما يفعله مخالف للمنطق فيجيبك أنا أعمل بالمثل القائل: اربط الحمار في المكان الذي يريده صاحبه، ومديري طلب هذا! فإن تابعت مناقشته فأنت ثرثار ولا تفهم أكثر من مديره الذي عليه أن يرضيه لينال الترقية المناسبة بعد فترة. وإذا أكثرت جداله فلا أحد يعرف مصير معاملتك التي بين يديه. ولهذا يوصونك بألا تناقشه إلا بعد أن تخرج معاملتك من عنده. فالمشكلة إذاً هي في التربية منذ مرحلة الطفولة. البيت يطلب من الطفل أن يطيع ولا يناقش. والمدرسة تطلب من الطالب أن يحفظ ويكرر ما يقال له، ويعيد العبارات التي قالها المعلم أو الجمل التي في الكتاب، وكأنها شيء من التنزيل. فكيف نتوقع منه أن يحاكم أي شائعة تصل إلى مسامعه؟ ومما أسمعه بكثرة من بعض الإخوة العرب قولهم: هذا الكلام صحيح، فأنا قرأته في الجورنال (أي الصحيفة)، فكأنه يقول لك: هل أنت أفهم ممن كتبه؟ فالمشكلة قد زُرعت في عقول الأطفال في البيت وتمت رعايتها في المدرسة. وفي الجامعة تسمع من الطلاب كلاماً عجباً. يقول أحدهم لصاحبه: إذا حليت المسألة بطريقة غير طريقة الأستاذ فستحصل على الصفر. كن كالإسفنج يمتص كل ما يقدم لك فقط، ولا تعطل دراستك، ولا تضيع وقتك في قراءة كتاب لم يذكره الأستاذ. وهكذا يصبح الطالب قابلاً لتأجير العقل، أو تعطيل التفكير، أو ممن يقول بصحة كل ما يُقال، فلماذا لا يقبل الشائعة وقد تمت تربيته على عدم المناقشة؟ وبعض الناس يُربى على أنه من اللطف والكياسة والحضارة في أن تقول لمحدثك أنه على صواب، ومن التخلف أن تطلب منه أن يثبت أو يعلل ما يقول. وبعد التخرج ودخول الوظيفة سيجد من يهمس في أذنه: إذا أردت الترقية السريعة فما عليك إلا موافقة مدير القسم الذي أنت فيه، وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك، فإن سألته تعليل كل ما يطلبه منك فأنت مشاكس ومعاند، فليس هناك مكان للوسط، فإذا لم تكن مع المدير فأنت ضده. كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز [email protected]