إنهُ لحقيقٌ على مَنْ علِم أنهُ سيلقى ربَّهُ تعالى، أن يُحسنَ العمل، حتى تقرَّ منهُ النفس والعين حين يلقى الله تعالى. ذلك اللقاءُ العظيم، الذي هو أعظمُ لقاءاتِ العبد بإطلاق، وأجلُّها قدراً وأرفعها شرفاً ومنزلة .. لقاءُ الله تبارك وتعالى الذي يكونُ بعد الموت .. وهو حق .. قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ). البقرة (223) وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ). الانشقاق (6). أورد شيخ الإسلام – رحمهُ الله-: "فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه واللقاء يعقبهما". وورد في دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمدُ، أنت نورُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ، أنت قيِّمُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ، أنت الحقُّ، ووعدُك حقٌّ، وقولُك حقٌّ، ولقاؤك حقٌّ …".[1] وقال صلى الله عليه وسلم: "تعلَّموا أنه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه عزَّ وجلَّ حتَّى يموتَ".[2] هذا اللقاء الذي يحدثُ للجميع، يختلف عن رؤية الربِّ جلَّ جلاله التي هي نعيمٌ محض في دورِ الجِنان. ففي الحديث الشريف عن أمنا عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحبَّ لقاءَ اللهِ، أحبَّ اللهُ لقاءَهُ. ومن كرِهَ لقاءَ اللهِ، كرِهَ اللهُ لقاءَهُ. فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، أكراهيةَ الموتِ؟ فكلُّنا نكرهُ الموتَ. فقال: ليس كذلك، ولكنَّ المؤمنَ إذا بُشِّرَ برحمةِ اللهِ ورضوانهِ وجنَّتِهِ، أحبَّ لقاءَ اللهِ، فأحبَّ اللهُ لقاءَهُ. وإنَّ الكافرَ إذا بُشِّرَ بعذابِ اللهِ وسخطِهِ، كرِهَ لقاءَ اللهِ، وكرهَ اللهُ لقاءَهُ".[3] ذكر شيخ الإسلام رحمهُ الله: "لقاء الله على نوعين؛ "لقاء محبوب" وَ "لقاءٌ مكروه"، كما قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم سلمة بن دينار الأعرج: كيف القدوم على الله تعالى؟ فقال: المحسن كالغائب يقدم على مولاه وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه. فلما كان اللقاء نوعين – وإنما يميز أحدهما عن الآخر في الإخبار بما يوصف به هذا اللقاء وهذا اللقاء – وصف النبي صلى الله عليه وسلم "اللقاء المحبوب"؛ بما تتقدمه البشرى بالخير وما يقترن به من الإكرام. و "اللقاء المكروه"؛ بما يتقدمه من البشرى بالسوء وما يقترن به من الإهانة، فصار المؤمن مخبرا بأن لقاءه لله لقاء محبوب والكافر مخبرا بأن لقاءه لله مكروه، فصار المؤمن يحب لقاء الله وصار الكافر يكره لقاء الله; فأحب الله لقاء هذا وكره لقاء هذا {جزاءً وفاقا}". إنها عقيدةُ حق؛ من حَسُنَ إيمانهُ وتصديقهُ بها، أحسنَ في كلِ عمل، وراقب الربَّ جلَّ جلاله على كلِّ حال. وتقازمتِ الدنيا في عينيهِ إلى الصفر، حيثُ تشاغلَ بالعملِ الأعظم والهم الأكبر؛ وهو رضى الله تبارك وتعالى .. قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). الكهف(110) وإنما يُنالُ رضوانهُ عزوجل؛ بالعجلة إلى أوامرهِ والإسراعِ فيما يُحبُّ تعالى، واجتنابِ نواهيه وتعظيم حُرماتهِ غاية التعظيم. يقول ابن القيم – رحمهُ الله-: "سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر ذلك، قال: إن رضا الرب في العجلة إلى أوامره". فالعمل الصالح زادٌ يتحراه المؤمن أبداً دواماً، يعلمُ أنه لابد وافدٌ على اللهِ يوماً، فيكون ذلك سبباً في أن يحيا دنياهُ مشتاقاً للقاء الله تعالى .. جاء في الحديث قولهُ صلى الله عليه وسلم: "وأسألُكَ الرِّضاءَ بالقضاءِ وبردَ العيشِ بعدَ الموتِ ولذَّةَ النَّظرِ إلى وجْهِكَ والشَّوقَ إلى لقائِكَ".[4] قال ابن القيِّم: "والشوق أثرٌ من آثار المحبة، وحكمٌ من أحكامها، فإنهُ سفرُ القلب إلى المحبوب في كل حال". وقال يحيى بن معاذ: "علامةُ الشوقِ فطامُ الجوارح عن الشهوات". روي أن عجوزاً مغيّبة، قدم غائبها من السفر. ففرح به أهله وأقاربه، وقعدت هي تبكي. فقيل لها: ما يبكيك؟، فقالت: ذكَّرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله عز وجل. وأما كيفيةُ ذلك اللقاء الذي بعد الموت، فيُبيِّنهُ حديثُ جابرٍ رضي الله عنه في مقتل والدهِ عبدالله، يقول: "لمَّا قُتِلَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرو بنِ حرامٍ يومَ أُحُدٍ، لقيَني رَسولُ اللَّهِ، فقالَ: يا جابرُ، ألا أخبرُكَ ما قالَ اللَّهُ لأبيكَ؟ – وقالَ يَحيى في حديثِهِ فقالَ: يا جابرُ، ما لي أراكَ مُنكَسرًا؟ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ استُشْهِدَ أبي وترَكَ عيالًا ودَينًا. قالَ: أفلا أبشِّرُكَ بما لقيَ اللَّهُ بِهِ أباكَ؟-، قالَ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابٍ، وَكَلَّمَ أباكَ كِفاحًا، فقالَ: يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قالَ: يا ربِّ، تُحييني فأُقتَلُ فيكَ ثانيةً. فقالَ الرَّبُّ سبحانَهُ: إنَّهُ سبقَ منِّي أنَّهم إليها لا يُرجعونَ. قالَ: يا ربِّ، فأبلِغْ مَن ورائي، قالَ: فأنزلَ اللَّهُ تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)".[5] إن هذه الحقيقة تورثُ حسن الأدبِ مع الله تعالى، فلسانُ حالِ المسلم عندما يعتريهِ فتورٌ أو تكاسلٌ عن العبادة: تُرى كيف سألقى الله؟، تُرى ماذا سأقولُ له؟ هل سيكونُ الوجهُ أبيضاً أنوراً حيثُ اللقيا مشرِّفةٌ، لتقديمِ العملِ الصالح بين يديه وبذل قصارى الوسع لإرضاء ملك الملوك سبحانه؟. أم مسوداً يعلوهُ قَتَرُ الخزي والمهانة جرَّاء التفريطِ والانتكاس– والعياذُ بالله-؟ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [1] صحيح البخاري. [2] صحيح مسلم. [3] صحيح مسلم. [4] صححهُ الألباني. [5] حديثٌ حسن.