اللغة هي الإنسان؛ لأنها تعبِّر عن مشاعره، وتنقل أفكاره، وتصوِّر خلجات نفسه، وتبوح بكوامن شخصيته، وتجعلنا قادرين على تحديد معالم الإنسان النفسية والفكرية؛ ولذلك عُني الإنسان باللغة، وحرص على تطويرها، وحافظ عليها، واتخذ منها طريقاً يعبر منه إلى قلوب الآخرين ونفوسهم. ولأنَّ اللسان هو الذي ينطق باللغة أصبح ذا قيمة كبيرة بين حواسِّ الإنسان، وصار أثره أقوى في النفوس من أثر الحواس الأخرى، وأصبح تهذيب اللسان هدفاً دينياً دعت إليه نصوص الشرع الحكيم، وحذَّرت من عثراته وزلاَّته، وأنذرت المهملين له المتطاولين به من عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة. هنا يتضح لنا معنى أن تكون «اللغةُ هي الإنسان» ويتبيَّن لنا صحة ما قيل: من أنَّ الإنسان صندوق مغلقٌ لا يستطيع أحد الحكم له أو عليه إلا إذا نطق، فإذا نطق بيَّن اللسان، وأوضحت اللغة مكانته وقيمته، فكم من رجلٍ صامتٍ له مهابة عند من يراه يفقد تلك المهابة حينما يتكلَّم فتكون لغتُه دون مستوى مهابته، أو تزيد مهابته حينما يتكلَّم إذا كانت لغته راقيةً منسجمة مع مهابته. ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله كلمته الشهيرة «الآن آن لأبي حنيفة أنْ يمدَّ رجله» حيث رُوي أنَّه كان مع طلاَّبه في حلقة درسه فدخل عليه رجل ذو مهابة، فقبض أبو حنيفة رجله التي كانت ممدودة بسبب آلامها، وأتعبه قبضها، ولكنه صبر تقديراً لمهابة ذلك الرجل، فلما تكلَّم الرجل أفصح عن مستواه فمدَّ الإمام رجله متخلِّصاً من آلام قبضها وقال الكلمة التي ذكرناها. لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده فلم يبقَ إلاّ صورة اللحم والدَّم هكذا رسم الشاعر قيمة لسان الإنسان ولغته، ونحن نعلم أنَّ قيمة اللسان إنما جاءت من خطورة ما ينطق به سلباً وإيجاباً، ولهذا ورد في الأثر: «إنَّ البلاء موكَّل بالمنطق» وقالت العرب: «ربَّ كلمة قالت لصاحبها دعني»، وفي ذلك تصوير لمدى أهمية كلمة الإنسان وأثرها في المتلقين. اللغة تدلُّك على مستوى أخلاق وأفكار من ينطق بها، ويمكن أن تستدلَّ بلغة شخص على مستوى ثقافته، وفكره، وأخلاقه، وأدبه. ونحن المسلمين لدينا النموذج الأرقى والمثل الأعلى في لغة القرآن الكريم التي أصبحت بها لغتنا العربية الفصحى أسمى وأرقى لغة في الكون. ولدينا قدوتنا الكبرى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سعدت به اللغة العربية ناطقاً بها، رافعاً لمستواها، مطهِّراً لها من كل كلمة نابية، أو معنى غير مستقيم. لم يكن عليه الصلاة والسلام لعَّاناً، ولا شتَّاماً، ولا صخَّاباً بالأسواق. هو أفصح العرب قاطبة وقد قال عن نفسه: «أنا أفصح العرب بيْد أني من قريش» وهو الموجِّه الأول لأمته في سلامة لغتها، ورقيها، وبلاغتها، وجمالها. قالت عائشة رضي الله عنها عنه: لم يكن رسول الله يهذر كما يهذر الناس، وإنما كان يقول كلاماً لو عدَّه العادُّ لأحصاه. وكان خلقه القرآن، فلنا أن نفخر بلغة خالدة حفظها القرآن، وارتقى بها لسان أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام. اللغة أنتَ: إنْ تحدَّثت بكلامٍ طيِّب وجدت أثراً طيباً، وبنيت لنفسك في الدنيا مكاناً طيباً، ولقيت أجرك عند الله وافراً، وإن كانت الأخرى لقيتَ ما يناسبها. نحن في هذا العصر بأمسِّ الحاجة إلى أن نرقى بلغتنا من حيث سلامة النطق بها، ومن حيث تربية أجيالنا على الكلمات الصافية، والجمل الراقية، وتنقية ألسنتهم من العبارات البذيئة، واللعن والسبّ والشتم، وتعويدهم على استخدام الكلمات الراقية المناسبة حينما يتحدثون إلى كبار السنّ من أهلهم، أو من غيرهم من الناس، وحينما يتحدثون إلى أساتذتهم وزملائهم، ولا يصح لنا تحقيقاً لهدف التربية الأسمى أن نتهاون بما ينطق به الصغار من عبارات نابيةٍ لا تليق. اللغة تدل على علوِّ قدر المتحدث بها أو هبوطه، فما أجدرها بعنايتنا. أَنِلْني منكَ إحساساً وحباً وخذْ مني الحياةَ ولا تُهِنِّي