كل الشعائر التي فرضها الله عز وجل على عبادة، من ورائها تكمن منافع عديدة للعباد, علمها من علمها، وجهلها من جهلها, ولا يؤثر ذاك العلم, أو هذا الجهل, في حتمية وجود تلك المنافع, إذ الأوامر الشرعية منزهة عن كل نقص, مبرئة من كل عيب, والشارع الحكيم, سبحانه, لا يفرض شيئا عبثا. وإذا ما تأملنا الحج, كفريضة شرعية, سنجد أن الله تبارك وتعالى قد نص على منافع عديدة يحصلها العبد المؤمن, فقال تعالى:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (*) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.." (الحج:27,28). قال السعدي في تفسيره:"أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية، من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية، من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه", وكذا قال ابن كثير:"منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات. وكذا قال مجاهد، وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة". ويحتاج المرء إلى الحج ليحصل منافع عديدة.. فالحج تذكرة بيوم قيامة الإنسان, يوم يتجرد الإنسان في حجه, من كل شيء, حتى تلك الملابس التي اعتاد عليها, ولا يجد نفسه إلا في كفن يتحرك به, وينام فيه, ولا شيء سواه, ومن ثم يتذكر يوم لا ريب فيه, يوم يغادر الدنيا, بذات اللباس, لا شيء معه سوى ما قدم من عمل. والحج خروج من كل ما اعتادته النفس البشرية, من راحة ودعة وسكون وركون إلى المال والأهل والولد, إلى وضع غير مألوف, فتنكسر الرتابة, ويذهب السأم والملل, وتجدد للنفس البشرية حيويتها, وطاقتها, وتأخذ شحنة عبادة دافعة إلى العام القابل. والحج خروج من مباهج الدنيا وغرورها, فمن أول تلبية يفرغ الإنسان قلبه من الدنيا, وهي التي كانت قبل قليل تملأ قلبه كله, فيما تنزوي العبادة في ركن ضيق من ذلك القلب, ولا يكاد يترك المرء لها من وقته إلا النادر القليل, فينقلب الحال, حيث تغادر الدنيا القلب, تاركة المجال الفسيح للعبادة. والحج توجه إلى حيث الهدف الذي من أجله خلق الإنسان, أنها العبادة، التي ما يكاد يفرغ الحاج, من شيء منها, حتى تلاحقه أخرى, فلا شيء في خاطره, سوى عبادة ربه, والحرص كل الحرص أن تؤدى العبادة على وجهها الأكمل, فيذوق حينها حلاوة الطاعة, ويدخل في مقام العبودية. والحج يذكر الإنسان, بأن هناك من يتربص به, في كل وقت وحين, لا يغفل عنه, ومن ثم يحتاط لنفسه, ويأخذ حذره, ويعلم أن له عدو, فيتخذه عدوا, إنه الشيطان الرجيم, الذي يرجمه الحاج, بجمرات, تأكيدا على هذا المعنى, الذي يجب ألا يغيب عن وعي الإنسان وخاطره. والحج يذكر العبد, بمقام العبودية, ذاك المقام الشريف, الذي يكون فيه العبد, حيث أراده الله, يفعل ما يؤمر, في امتثال وخضوع لإرادة الشارع الخالق الحكيم, ومع هذا الامتثال الكامل, يكون الحب البالغ للرب الكريم, ولما فرضه من شعائر لا يعرف الإنسان منها سوى أنها من أمر الله. ونحتاج كأمة إلى الحج لنحصل منافع عديدة.. فالحج يذكر هذه الأمة, بوحدتها, وبأنها أمة واحدة, هكذا أرادها الله عز وجل, حتى وأن تفرقت بها السبل, وفرقتها الخلافات السياسية, ومزقتها الخلافات المذهبية, فثمة ما يجمعها, على صعيد واحد, لهدف واحد, وبلباس واحد, وبلسان واحد, لا خلاف, ولا اختلاف. والحج يذكر هذه الأمة, بأن وحدتها ما زالت ممكنة, وأن الذي يجمعها, هو الدين, والدين وحده, فهي أجناس متنوعة, والسن مختلفة, وعادت وتقاليد متباينة, وأنظمة سياسية واقتصادية متنافرة, ورغم ذلك كله, فإن دينها واحد, وربها واحد, وإن أرادت أن تجتمع, فلا شيء يجمعها إلا الدين. والحج يذكر هذه الأمة بقوتها, وأن قوتها في وحدتها, وضعفها في تمزقها وتفرقها, فهذا الحشد الضخم المهيب, يقذف في قلوب أعداء الأمة الرعب, وكم بذلوا من مال, وكم أفنوا من أوقات, وكم اجتهدوا في التخطيط, لصرف الأمة عن هذه العبادة التي تذكرها بقوتها وعزتها, ففشلوا وباءوا بالخيبة والخسران. ما أحوجنا إلى الحج, كأفراد, وكأمة واحدة.