منذ أن فتحت عيني على الدنيا وأنا أرى ذاك الشيخ الوقور الجليل المهاب ذا اللحية الكثة البيضاء، وأرى أبي وأعمامي – حفظهم الله – يتعاملون معه باحترام غير مألوف وكأنه ملك مبجل ، لا يرفعون عنده الأصوات ولا تتعالى بين يديه الضحكات ،ولا يُحدون إليه النظرات، وينتقون للحديث معه أطيب العبارات، وإذا فرغ من طعامه احضروا له الإناء ليغسل يديه في مكانه إكراما له وتبجيلا. ذاك الشيخ الوقور هو جدي محمد بن يحيى العابد الزاهد الورع المتواضع الصادق الصابر أحسبه كذلك ولا أزكيه. فاق عمره القرن ببضع سنين حتى رُسم على محياه تجاعيد الزمان ، فأضحت حياته لوحة فنية تبهر من يراها ، رسمها بمداد التوكل واليقين وحسن الظن بربه، و لَوّنها بريشة صبره وكفاحه وتضحياته، وبروزها بعبادته وصلاحه ودماثة خلقه ، فعلقها أبناؤه وأحفاده على جدران قلوبهم ليقتفوا أثره ، ويكونوا امتدادا لعمله. أدرك جدي رحمه الله سنين القحط والجدب تلك الأيام العجاف هلك فيها جملة من البوادي وغارت الآبار وجلا بعض أهل نجد للأحساء والزبير والعراق والكويت، فعُدمت الأقوات إلا ما ندر، ومات كثير من الناس جوعاً ، ذاك الزمن الذي كانت تصلنا فيه زكوات وصدقات الدول المجاورة كالصومال والسودان، وغيرها، ذاك الزمن الذي سافر فيه جدي رحمه الله لحج الفريضة من الحجاز إلى نجد بريالين فقط. وقد أجاد أحد شعراء سدير في وصف حالهم: غدا الناس أثلاثاً فثلث شريدة …. يلاوي صليب البين عار وجائع وثلث إلى بطن الثرى دفن ميت …. وثلث إلى الأرياف جال وناجع – رزق جدي رحمه الله نفسا متفائلة محسنة الظن بربها ألزمته ألا يستسلم للجوع أو الموت وإن كان في ذلك عنتٌ ومشقة، فحوّل بتفاؤله الصعاب إلى فرص ، وذلل المحن بحسن ظنه بربه فانقادت له منحا ، ففرّ رحمه الله من الجوع إلى الكويت في أول خروج له من المملكة، وصبر وكافح وعانى الغربة ولوعة الأشواق، لَفحته رياح التجارب ، وصقلت خبرته المصاعب، حتى أدرك زماننا الذي فاضت الخيرات فيه من بين أيدينا، تأتينا فاكهة الشتاء بالصيف وفاكهة الصيف بالشتاء، تفننا في الحلويات والمقبلات فضلا عن الوجبات الرئيسية ، حتى بات أبسط بيت من أهل نجد يأكل ماكان يدار على موائد ملوك الدولة العباسية كالفالوذج و اللوزينج –نوع من الحلويات يصنع من الدقيق والسمن أو السميد والعسل ويزين بالمكسرات وقطران السكر أشبه بالبسبوسة والقطايف في زماننا – – أدرك جدي – رحمه الله – الزمن الذي كانوا يربطون بطونهم فيه من الجوع ، وأدرك زماننا الذي تُربط فيه المعدة من الشبع وانتشرت فيه مراكز الحمية، فبتنا نتباهى بأشهى المأكولات، ونتنافس في تصويرها ونشرها عبر برامج التواصل ، ولم يقتصر التفنن في زماننا على إعداد الطعام فقط بل غزا الأواني التي يوضع بها حتى نافست التحف المنزلية في فخامتها ونقوشها ، وكأننا في سباق أينا يعرض أجود المطاعم أو أفضل الأكلات وأفخر الأواني !! وفقنا الله وإياكم لحسن الجواب حين نُسأل عن هذا النعيم {ثم لتُسئلن يومئذ عن النعيم} أَوزعنا الشكور شكرها وكفانا مغبة التبذير، فالأيام دول، وسنن الله لا تحابي أحدا. – فَقَد ذاكرته – رحمه الله – في آخر حياته فلا يدري ما اسمه ولا اسم أبنائه لكنه ما إن يسمع ما يحفظه من القرآن إلا ويسارع القارئ في إتمام السورة، وهذا من إعجاز كلام الله ، جعل الله القرآن أنيسه في قبره . – جدي الرحيم الحنون كان لا يتساهل مع أبنائه في الصلاة بأي حال كان (لا مرض ولا سفر ولا مطر ولا أي عذر) ومن تفوته الصلاة في المسجد فالويل له، ممتثلا قول الحق { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}، وأخبار حِرصه في التبكير للصلاة مستفيضة مشتهرة ، مجرد أن يسمع الأذان يتوقف عن كل شيء لا يمتُ للصلاة بصلة ، وييمم وجهه شطر المسجد، ولسان حاله {وعجلت إليك ربي لترضى}، ومن أقواله المأثورة إذا سمع الأذان وهو في محله ، يتوقف عن البيع مباشرة ويقول لمن معه ( سَكّر الدكان ما يشتري بها الوقت إلا شيطان)، وأخبرنا أحد الفضلاء بخبر لايزال محفورا في ذاكرته يقول: كنت ذات يوم في ملحمته ومعي فلان وفلان ، نريد لحما، فأخذ طلبنا ووضعه على الطاولة وقَطَعه نصفين ثم رفع السكين ليُقطّعه قِطَعا أصغر فسمع المؤذن يقول : الله أكبر ، فأنزل السكين وقال لهم: إن شاء الله نكمل التقطيع بعد الصلاة قالوا : أكمل الآن الوقت معنا ستدرك الصلاة ، قال : فلوسكم عندكم ولحمي عندي ، وأغلق المحل وخرج للصلاة وخرجوا معه، وعادوا له بعد انتهائها وقد عَلّمَهم درسا في التبكير للصلاة. ودائما ما يقص علينا والدي هذا الأمر كلما رآنا نفرط بين الأذان والإقامة، وإن كانت صلاتنا في بيتنا معاشر النساء أفضل في حقنا من الصف الأول في المساجد لكنا نتساوى مع الرجال في الحث على الصلاة أول وقتها، ولأبي -سلمه الله وحفظه – مقولة خالدة حفظناها لكثرة ما يرددها ، إذا رآنا بعد الأذان نتجاذب أطراف الحديث أنا وأخواتي (يا بنياتي السواليف ما تنتهي سمعتوا "الله أكبر " يعني الله أكبر من كل شيء افتحوا مصلاكم وارفعوا أيديكم اشحذوا الكريم الأكرم وإذا صليتوا افتحوا مصاحفكم وشوفوا كم ختمة تختمون بهالشهر ) وأحسب أن مقولة أبي – كان الله له – هي امتداد لتربية جدي وجدتي – رحمهما الله ونور قبريهما – ، فكانت أيضا تحث أبناءها على الصلاة وتغرس في قلوبهم تعظيم بيت الله واحترامه، فإذا خرج جدي للصلاة بعد أن يرفع صوته بقوله ( صلوا صلوا ) أو ( الصلاة الصلاة) فيوقظ بها النائم، ويسمعها المستيقظ ، جاء دور جدتي في متابعتهم حتى يخرجوا جميعا للمسجد، وكانت تُعِد لهم الطيب والبخور خصوصا يوم الجمعة ممتثلة أمر الرب { خذوا زينتكم عند كل مسجد} ، ومن عادة جدي الخروج لصلاة الجمعة مبكرا مع أنه يوم إجازة الأسبوع ويكون البيع في ذروته ، فيبيع أول الصباح ثم يغلق محله ويذهب للمسجد فيجد أحد أبنائه قد وضع سجادته التي طيبتها جدتي -رحمها الله – في الصف الأول تنتظره فيجلس في مصلاه يذكر الله حتى يدخل الإمام. أجهد أقدامه رحمه الله بطول القيام حتى أن بعض أبنائه الصغار كان يظن قيام الليل فرضًا لانفلًا لما يرى من حرص والده عليه، ولم يترك سنة الضحى أو السنن الرواتب أبدا حتى مرض. ذاك حرصه على الصلاة زمن نشاطه -رحمه الله – ، ولما كبر سنه وقبل أن يصاب بالجلطة التي أثرت على حركته كان يذهب قبل الأذان للمسجد ينتظر الصلاة خصوصا صلاتي الفجر والعصر يخرج للمسجد قبل أن يُرفع الأذان، ولعل حرصه على الصلاة هو امتداد لحرص والده جدنا يحيى رحمه الله كان مؤذنا، ولسان حالهما نور الله قبريهما : سنذهب للقاء ربنا قبل أن ينادينا. فمن أراد تربية ابنه على أمر فليبدأ بنفسه ويَلزمه ليألف الابن رؤيته فيحاكي والده في فعله، مع التزام الدعاء له : رب اجعلني مقيم الصلاة وذريتي. فمتى ما صلحت صلاتهم صلح سائر أمرهم لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ومتى ما فسدت أفسدت عليهم دنياهم وأخراهم. أما حاله مع الصلاة بعد مرضه فكان حرصه عليها أشد، فأول ما أصيب بالجلطة واضطرب ميزان الذاكرة عنده لم يغفل عن الصلاة حتى أنه أبهر الأطباء حين سجد على فراشه بالمستشفى !! ولم يغفل عنها حتى بعد أن فقد ذاكرته تماما كان منبها لنا بقرب موعد الصلاة ، إن كان نائما يستيقظ قبل موعد الصلاة بخمس أو سبع دقائق ويَذكر الله فنعلم قرب موعد الأذان ، وإن كان مستيقظا لهج بذكر الله .. كل هذا زمن فقده للذاكرة ، أسأل الله أن يجعله ذاك الرجل الذي قلبه معلق بالمساجد فيظله ووالده وجدتي وكل مسلم معلق قلبه بالصلاة تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله . ومن ثمار تعليق جدي وجدتي لقلوب أبنائهم بالصلاة جماعة، وتشجيعهم على أدائها في أول وقتها أصبح ذلك جزءا مهماً في حياتهم فلم يفرطوا به حتى حين ابتعثوا وغابوا عن عيونهما فكان أبي وعمي حفظهما الله يصليان جماعة في أي مكان كان ، ولم يكن الإسلام منتشرا قبل 30 عاما أو أكثر في ديار الكفر كانتشاره الآن، وكم من شخص وقف على رؤوسهم مستنكرا صلاتهم مستفهما عن تلك الطقوس التي يعملونها وهل هي رياضة بدنية أو رياضة روحية ! فيشرحون لهم الإسلام ويبينون لهم محاسنه. – كان رحمه الله رحيما بأبنائه حريصا على مصالحهم ، حتى وإن كلفه ذلك كثيرا من التضحيات، أو الشدة أحيانا لاستشعاره "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" فأبناؤه أمانة في رقبته ، لم يألُ جهدا في حسن تربيتهم ، وتحقيق آمالهم ، ولم يقف في وجه طموحاتهم ولم يصادر آراءهم واختياراتهم بل جعل لهم مطلق الحرية في شق طريق حياتهم، مع حرصه على إسعادهم، والترويح عنهم من خلال النزهات البرية. . كان رحمه الله يتابع بين الحج والعمرة ، ولم يستطع أحد من أبنائه أن يحصي عددها لكثرتها تقبلها الله منه بقبول حسن . كان رحمه الله محبا للعلم وأهله ، ولم يخجل من التعلم رغم كبر سنه، فحَطّم بإصراره وعزمه المثل القائل: ( بعد ما شاب ذهب للكتاب ) ، ففي شبابه كان منشغلا بالبحث عن لقمة عيشه ، فلما كبر التفت لتعلم القراءة والقرآن ، وكان له درس ثابت في ليل رمضان يذهب للمسجد ليتعلم كتاب الله ويتدارسه مع الشيخ. ومن صور مثابرته وإصراره – رحمه الله – وحبه لتعلم الجديد من العلوم النافعة: تعلم قيادة السيارة على كِبَر دون خجل أو خوف، وهذا من أبرز سمات الناجحين، وكان يشجع الطَموح من أبنائه وأحفاده فلما عزم أبي وعمي على الابتعاث لمواصلة تعليمهما في الخارج لم يمنعهما بل شد من أزرهما، حتى أنه قال لأبي إن لم يتيسر ابتعاثك على نفقة الدولة ، سأتكفل بها ، لتحقق حلمك. ولما علم بحصولي على المركز الأول في مسابقة القرآن على مستوى المدرسة، تهلل وجهه، وانبسطت أساريره، وكأني أرى ابتسامته الساعة ، وقد أخرج محفظته وأهداني كل ما فيها، وكان يكفيه أن يهديني 5 ريالات لتحلق بطفلة في ذاك الوقت على بساط السعادة، لكن كرم نفسه وسخاء يده، وحبه لكتاب الله وتشجيعه على العلم دفعه لذلك – نور الله قبره -. ولم يفتر عن التعلم حتى في مرضه كان يقرأ عليه أبي بعض الأحاديث ، وجاء فيها فضل قول ( سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه … الحديث) ، فقال له: يا ولدي ذكرني أقوله لا يفوتني الأجر. – حرص رحمه الله أن يربي أبناءه على المكارم والفضائل ، وتحمل المسؤولية منذ صغرهم، فكانوا سنده بعد الله في تجارته، وقد اشتهر عنه – قدس الله روحه – الصدق والأمانة، حتى أن ساعي البريد يضع الرسائل عنده ، فغدا محله مَعلَماً من معالم شارع الرَيْل في ذاك الوقت . – جدي فُتح له في عبادة الذكر فتحا عجيبا ، لم يفتر لسانه عن الذكر يقظة ومناما.. أسماه العمال في محل تجارته والمحلات المجاورة له (بابا لا إله إلا الله ) لكثرة مايرددها حتى أسموه بها.. كنت أرقبه وهو يتقلب في نومه وقت نشاطه وزمن مرضه وحين فَقدِه للذاكرة كيف يذكر الله وهو نائم وأبكي على حالي لعلمي أن ذكر الله توفيق من الرب لعبده فعبادة الذكر يسيره لا تكلف شيئا لكن لا يُهدى إليها ولا يُعان عليها إلا موفق .. نعوذ بالله من الحرمان. – كان محبوبا رحمه الله لا أذكر أني دخلت عليه وهو مُسَجّى على فراش مرضه لا يدري من يدخل عليه، إلا وأجد عنده زائرا يعوده من أهله أو جيرانه ، أو أصحاب أبنائه ، فأعجب لكثرة من يعوده ، إلا أن عجبي تلاشى حين علمت أنه كان وَصّالا لرحمه يصل كبيرهم وصغيرهم ولا يحمل غلا عليهم بل لا يقبل أن يسمع أحدا يذكرهم إلا بخير، وكان لا يرى لنفسه حقا على أحد فإذا قال له أخواته أو أبناء إخوانه: الحق لك نزورك قال: ما بينا حقوق. كنت أسمع هذه الكلمة ( ما بينا حقوق) من أبي ومن أعمامي كثيرا وأعجب من تواضعهم، فلما أخبرتني عمتي – وفقها الله – أن هذه مقولة جدي تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما نَحَل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن» وإن كان فيه ضعف لكن معناه صحيح، فهنيئا لمن ربى أبناءه بأفعاله قبل أقواله على المكارم. – جدي رحمه الله أتاه الله ورعا شديدا وقوة في الحق فكان كعادة كبار السن في نجد لا يسكت على منكر يراه أبدا ، ولا يخاف في الله لومة لائم لذا لايجرؤ أحد أن يعصي الله أمامه، فكان – رحمه الله – إذا سمع أحدا يغتاب، قال له : اذكر الله واترك عيوب الناس وانشغل بإصلاح نفسك.. ومن ورعه رحمه الله كان أبناؤه و أحفاده لا يفتحون التلفاز بحضرته حتى بعد مرضه وفقده لجزء من ذاكرته احتراما لرغبته . – أحسبه صادقا في حسن توكله ، وقوة يقينه بما عند ربه، مات رحمه الله ولم يفتح يوما حسابا في بنك، وليس عليه دين لأحد، لم يكنز رحمه الله ثروة ، لكنه كنز ثقته بربه ، فانعكست على ثقة الناس به وحبهم له، ومن عجيب ما ذُكر من صدق توكله واعتماده على خالقه ، حين كثر ماله وسّع محله ففتح محلا آخرا وفتح ملحمة ، فجاءه رجل يطلب ود شراكته، فقبله دون أوراق رسمية لكن الرجل لم يكن نقيا ، والقلب الصافي لا يحب التعامل إلا مع الأنقياء ،فطلب منه أن يبيعه حصته أو يشتريه منه ، ليتخلص من شراكته ، فباعه بخمسة الآف ريال وكانت في ذاك الزمن مبلغا لا يُستهان به، فلما انتهى البيع بلا أوراق ، ذهب المشتري لمنزله وهو في طريقه وجد ثلاثة من كبار السن يتجاذبون أطراف الحديث فأخبرهم أنه اشترى حصته من جدي بمبلغ كذا، وعليه فقد انتهت شراكتهما ، لم يسأله أحد عن ذلك لكن الله أنطقه لنعلم أن من يحفظ الله يحفظه ، مرت الأيام فعاد لجدي يطلبه حصته من الشراكة فتعجب كيف أنكره البيع ، وضاقت الدنيا على جدي كيف يتعامل معه وليس لديه أي إثبات رسمي بالبيع ، لكن قوة يقينه بربه أنه لن يخذله ولسان حاله : ربي معي فمن الذي أخشى إذن … مادام ربي يحُسن التدبيرا . وهو الذي قد قال في قرآنه … وكفى بِرَبّك هاديًا ونَصيرا. فاختصما عند القاضي فطلب من جدي شهودا بالبيع فقال له: لا شاهد على البيع إلا الشهيد الرقيب سبحانه ، قال: ابحث. فعاد لمحله مهموما بحكم القاضي ، فرآه أحد أولئك النفر الذين كانوا يتجاذبون أطراف الحديث فسأله عن همه ، فقص عليه الخبر ، قال: أنا أشهد ومعي اثنان فلان وفلان أنه باعك ب5 الآف ريال في يوم كذا ، فتعجب منه كيف يشهد على بيع لم يحضره ، وكيف علم بقيمة المبلغ ! فأخبره الخبر وذهب الثلاثة نفر وشهدوا عند القاضي! فلا تغتم مهما ضاقت عليك الدنيا فأوسع أبواب الفرج قد يأتيك من باب لا تتوقعه ، كما حصل لجدي رحمه الله فالذي أخبرهم بالبيع هو المشتري الجاحد المنكر. ولا تقلق ولا تحزن لو اجتمع الإنس والجن فدسوا لك الدسائس ، وتفننوا في حياكة المؤامرات ضدك ، ومهما انتفش ريش الظلم ، وقويت سطوته مآله للزوال { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } ، فمن كان مع الله فلا يبالِ . ومن قوة اعتماده – رحمه الله – على ربه كان لا يفتح محله إلا بعد أن يدعو : يا فتاح يا كريم ، يا رزاق يا عظيم ، يا رب على بابك ولا خاب طلابك ، بسم الله. – كان رحمه الله جاداً مثابرا لا يعرف الهزل طريقه، ولا الكسل سبيلا إليه، كان حريصا على وقته لعلمه أنها أنفاسه فلا تُصرف إلا في خير دنيوي أو أخروي ، ويتلمس البركة في مظانها ، فيبقى في المسجد بعد الفجر يذكر الله حتى تشرق الشمس، فيخرج في طلب رزقه ملتمسا بركة البكور، ولسانه يلهج بالدعاء والذكر والاستغفار . – كان زاهدا بالدنيا لا تساوي عنده شيئا فلا يوالي لأجلها ولا يعادي لها ، كان متواضعا سخيا كريما بابه مفتوح ومنزله مأوى ، لا يتغدى أو يتعشى إلا بضيف ، وكان صندوق المال في محله مفتوحا لا حافظ له إلا الحفيظ الحافظ ، ليس عليه حارس ولا أمين صندوق ، ومن قوة توكله على ربه كان لا يحصي كل يوم كم باع أو اشترى ، ولا يسأل أبناءه عما أُخذ من ذاك الصندوق ، ممتثلا وصية رسوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : "أنفقي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك". – أحسب جدي رحمه الله من الطيبين ، وقد رُزق من الطيبات بزوجتين من خيرة النساء، كانا له خير لباس وسكن، ومازالت بركات دعواتهم تصل الأبناء والأحفاد رحمهم الله جميعا، وجمعنا بهم في دار كرامته مع نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته ، ومما أثر عن جدتي وسع الله قبرها أنها كانت تقول : ((لا نعيم إلا نعيم الجنة لا يزول نعيمها ولا يفنى محبيها)). – حين مرض رحمه الله طلب منه عمي الكبير يحيى -حفظه الله ومتعه بالعافية – عمدتنا ووالدنا جميعا أن يبقى عنده ليَشرُف ببره عن قُرب ، فقد فتح الله له في البر فتحا عجيبا ، رأيته ذات يوم يغسل فراش جدي _ رحمه الله _ بنفس منشرحة وابتسامة تعلو وجهه، فقلت : يا عم لو جعلت الخادمة تغسله بدل أن تجهد نفسك قال: يا ابنتي أنا أتلذذ بهذا! همست في نفسي: يا سبحان الله يتلذذ بإزالة القذى- أعزكم الله – عن فراش والده مرتين وربما أكثر في اليوم الواحد على كبر سنه، ونحن في ريعان شبابنا ونتذمر من عمل ما هو أقل من ذلك!! فقلت : يا عم جزاك الله خيرا والله إنك لقدوة نقتدي بك في البر ، فبكى ثم بكى حتى سمعت لصدره أزيزا .. تلك الدموع رسالة منه (مهما فعلت لوالديّ لن أوفيهما حقهما وقدرهما ). ومن مواقف عمي المؤثرة التي علمنا فيها كيف يكون البر ، حين تعب جدي رحمه الله قبل موته ببضعة أشهر فأدخل المستشفى وقرروا له عملية ..يقول أبي متعه الله متاع الصالحين لو رأيت يا ابنتي عمك يحيى وهو يتوسل للطبيب أن يخرجه من المستشفى على مسؤوليته والعبرة تتحشرج في حلقه لا يريد لأبي أن يتعذب بالأجهزة والإبر لعِلمه أنه لا يتحمل عمليات.. لعَلِمتِ أن بره بلا تصنع بل هو بر من صميم القلب.. متعه الله ببر ذريته.. وكان كما تمنى فكتب الأطباء خروجه بعد تيقنهم من ضعف جسده عن تحمل هذا النوع من العمليات. يرفع قلمي قبعته إجلالا لك يا عماه يا مدرسة البر –كما تنعته أمي سلمها الله – علمتنا أنت وأبي وأعمامي كيف يكون البر تطبيقا عمليا لا قولا نظريا ..بل بات الأقارب والمعارف يضربون ببركم المثل، وكم طَرَق لمسمعي دعوات بعض النساء : اللهم اجعل أبنائي في برهم كَبِر أبناء أبو يحيى. ربيتمونا بأفعالكم وإحسانكم لجدتي ولجدي ولزوجته رحمهم الله جميعا، ورحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه ، ومتعنا بطول أعماركم وحسن أعمالكم ومتعكم وزوجاتكم ببر ذرياتكم. لم ينته البر بموتهم بل بدأ البر الحقيقي الذي لا يطلع عليه إلا الله فلا نرجو منه ثناءهم ولا دعاءهم ، وهم أحوج لبر أبنائهم بعد الموت لأنهم امتداد لعملهم الصالح ، " أو ولد صالح يدعو له ". وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. كتبته : أبرار بنت فهد القاسم يوم الجمعة 21 ربيع الأول 1437ه