تمضي سفينة العمر لتنقلنا في حياتنا الأولى (الحياة الدنيا) من محطة إلى محطة حتى يأذن الله بوصولها إلى محطتها الأخيرة.. إلى محطة الوداع فترسو على شاطئها لينقلنا ملك الموت إلى حياتنا الثانية (الحياة البرزخية)، وهناك نمكث ما يشاء الله لنا أن نمكث، ثم ينفخ في الصور إيذانا بانتقالنا إلى حياتنا الثالثة (الحياة الأخرى والأخيرة)، وهناك نحصد ما زرعناه في حياتنا الأولى، فإن كنا زرعنا خيرا وعملا صالحا نجونا مما في الحياة الثانية من ضمة القبر وسؤال منكر ونكير، وكسبنا في حياتنا الثالثة النعيم المقيم، وإن كنا زرعنا شرا وعملا سيئا فيالخسارتنا، ويالبؤس مآلنا، فالرابح من جعل دنياه مزرعة لآخرته، وخرج من هذه الدنيا وقد أعد للأخريتين ما يخفف عنه الحساب، ويدفع عنه العقاب؛ لينال نعيما لا ينقطع، ولذة عيش لا تنقضي، وأحسب أن العم (فهد بن عبدالكريم الفريح أبو إبراهيم) الذي غادرنا قبل أيام إلى جوار ربه من هؤلاء الرابحين بمشيئة الله فقد عاش أكثر من تسعين عاما قضاها في عبادة الله وطاعته كافا عافا سالما مسالما، وفي السنوات الأخيرة من عمره آثر البقاء في بيته فلا يخرج إلا إلى المسجد لقضاء الفرائض، وفتح بيته بعد صلاة الجمعة، وما بين المغرب والعشاء من كل يوم لمن أراد زيارته من الأصدقاء والأقارب والجيران والأحباب حيث يجتمع عنده أولاده، ويأتي إليه من شاء، وإذا جلست إليه يحفي السؤال عنك وعن أولادك وأهلك كأنهم أقرب الناس إليه مما يدل على خلق جم، وقلب طاهر نظيف، وكرسيه الذي يصلي عليه خلف الإمام لم يتركه منذ سنوات ولا فرضا واحدا إلا ما ندر، وفي بعض الأحيان يجلس بعد الصلاة في انتظار الصلاة الأخرى يتلو القرآن ويدعو ربه، وبعدما ضعف بصره صار يقرأ مما يحفظ، ويكثر من الدعاء، وقد ذكر مؤذن المسجد: أنه كان يجلس بجواره على مدى عشر سنوات وأنه كان يردد أدعية كثيرة مختلفة، وقد علق في ذهنه دعوات منها: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة، وهون الميتة، واللهم اجعلني من حييلي لقبيري، أي أمتني وأنا في قوتي لا أتأذى ولا أؤذي أحدا، وقد استجاب الله له هذه الدعوات الثلاث، فصارت خاتمته حسنة حيث إنه صلى العصر في المسجد، وعاد إلى بيته، ثم توضأ لصلاة المغرب، وجلس مستعدا للصلاة في انتظار السائق ليذهب به إلى المسجد، ومع الآذان قال لأحد أولاده الذي كان عنده: أحس أنني ثقيل، وقد لا أستطيع الذهاب إلى المسجد سأصلي في البيت، وما هي إلا ثوان حتى سكوصار يتململ، وعلا نفسه قليلا، ثم شخر شخرة خفيفة، ومال رأسه فأسنده ولده وناداه فلم يجب، فعلم أن الله قد اختاره إلى جواره، ما أجملها من خاتمة حسنة! وما أهونها من ميتة! لقد مات متوضئا ينتظر صلاة المغرب من غير أن يتعب أو يتعب أحدا، لقد تحققت له بالفعل إجابة الدعوات الثلاث التي كان يدعو بها، فهنيئا له هذه الخاتمة، وهذه الميتة، ودعاء من الأعماق بأن يحشره الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، لئن فارقت يا أبا إبراهيم هذه الدنيا، وانقطع عملك فيها فسوف يصلك بإذن الله أجر ما قدمته من أعمال خيرة، وستصلك دعوات أبنائك ومحبيك وعارفيك مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها ولد صالح يدعو له)) فقد رزقك الله بأبناء بررة يحيطونك بحبهم ووفائهم، وتحيط مساكنهم بمسكنك إحاطة السوار بالمعصم، فهنيئا لك بهم وببرهم وبدعواتهم، وهنيئا لهم بما قدموه لك ولوالدتهم - رحمها الله - التي سبقتك إلى الجوار الكريم، وانتهت حياتها هي الأخرى نهاية سعيدة حميدة كنهايتك، فقد قبضت روحها وهي على سجادتها تصلي صلاة الضحى، ومصحفها إلى جوارها فأسأل الله أن يجمعكما في الفردوس الأعلى، وأن يمن عليكما وعلى جميع أموات المسلمين بالرحمة والمغفرة. يا أبا إبراهيم: ماذا عساي أن أقول وأنا أشعر بحبك لي فإذا تأخرت عن زيارتك من غير قصد تعاتبني عتاب المحب، ولكن عزائي أني رأيتك قبل أن تفارقنا بأيام، وماذا عساي أن أقول والحزن والفرح يملآن قلبي في آن واحد.. أما الحزن فلفراقك الأليم، وأما الفرح فلنهايتك السعيدة، والفراق أمر لا بد منه وهو سنة الله في خلقه، حيث أنه لا بقاء لأحد كائنا من كان، ولو كان بالإمكان فداؤك لفديناك بأنفسنا، وبكل ما نملك، وماذا عساي أن أقول وقد تركت هذه الدنيا الدنية الزائلة وما فيها من متاعب وآلام إلى حياة أبدية فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: أبكيه ثم أقول معتذرا له: وفقت حين تركت الأماداري فطوبى لك، لقد عشت هادئا، ورحلت هادئا، وكسبت حب الناس الذي تمثل في تلك الحشود التي شيعتك في المسجد والمقبرة، والتي توافدت على البيت معزية فيك، فأسأل الله أن يتغمدك بواسع رحمته، وأن يجمعنا بك في دار كرامته، إنه سميع مجيب الدعاء.