مع تكليف معالي وزير الصحة المهندس خالد بن عبدالعزيز الفالح لم يقتض الأمر إلا وقتاً قصيراً لترشح فيه مؤشرات تدل على توجه الوزارة للاهتمام بالجانب الوقائي من الخدمات الصحية. وقد تفاءلت كثيراً بهذه "التوجهات الوقائية". من مؤشرات هذه التوجهات التطوير الذي يحدث في هياكل الوزارة الإدارية، ومن ذلك تطوير إدارة التوعية الصحية لتصبح "الإدارة العامة للتوعية الصحية وتعزيز الصحة" وربطها بالمكان الأنسب لها، وهو وكالة الوزارة للصحة العامة. ومن هذه المؤشرات أيضاً ما صدر عن معالي نائب الوزير للشؤون الصحية د/حمد بن محمد الضويلع ود/عبدالعزيز بن عبدالله بن سعيد وكيل الوزارة للصحة العامة في حسابيهما في تويتر بضرورة الاهتمام بالصحة الوقائية، فقد غرد سعادة الدكتور بن سعيد في حسابه في تويتر قائلاً "كون المملكة من أكثر دول العالم انتشاراً للسمنة والسكر، فهذا دليل على أن الوقاية لم تكن من أولويات وزارة الصحة". وأنا ممن يشهد على أن تاريخ وزارة الصحة في التوعية الصحية وتعزيز الصحة في أكثر عهودها كان "مخجلا" تمثل في ضعف المخصصات المالية، وضعف استقطاب وتطوير الكوادر المتخصصة. وقد أدى هذا الإهمال إلى نتائج سلبية كثيرة وكبيرة. وللأسف فإن هذا التاريخ لم يكن محدوداً في السياسات التنفيذية بل في التوجهات المركزية للوزارة. ففي عام 1416ه وعندما كنت مساعداً لمدير عام الشؤون الصحية بالمدينة المنورة، أرسلت الوزارة تعميماً يرفق "بحثاً" يتصدى ل "ظاهرة" إقبال الأطباء السعوديين على التخصص في طب الأسرة والمجتمع. وحينها أرسلت للوزارة رداً "شديد اللهجة" حاولت فيه أن أفهم من أرسل "البحث" ومن صاغ أسئلته أن هذه ظاهرة صحية يجب الاهتمام بها وليس التصدي لها. ولقد أتى على وزارة الصحة حين من الدهر، وحتى عهد قريب كانت ترفض الابتعاث في مجالات الطب الوقائي غير العلاجية، حتى لو "طق" الراغب رأسه في جدار. ومن هذه الكفاءات من ترك الوزارة إلى غير رجعة. وذات يوم سألت وزيراً سابقاً في وزارة الصحة عن استراتيجياتها في الطب الوقائي والتوعية الصحية وتعزيز الصحة فاعترف قائلاً؛ "الوزارة لا زالت تلهث خلف العلاج". ولكم قلنا للقيادات في وزارة الصحة "ادفع بالتي هي أحسن" في الاهتمام بالطب الوقائي فقد يصبح الذي بينك وبينه عداوة ذات يوم ولياً حميماً. فقد كتبت (وكتب غيري) ونشرت في صحيفة "الجزيرة" في ذي القعدة 1433ه مقالا شرحت فيه لماذا يعزف المتخصصون في طب الأسرة والمجتمع عن العمل في هذه التخصصات على الوجه المطلوب، حتى بعد حصولهم على الدراسات العليا في مقال بعنوان "الرعاية الصحية الأولية والطب الوقائي، مسار أدبي". ولقد عاشت وزارة الصحة حيناً من الدهر وهي تتباهي بعدد الأسرّة والمستشفيات وتتفاخر بافتتاح المزيد من "المدن الطبية". ومع اعترافي بالاهتمام بالطب العلاجي فهو قضية أمن وطني، إلا أن العالم المتقدم والمنظمات الصحية والمراكز العلمية لا تقيّم الدولة فقط على هذه المعايير بل أيضاً على مؤشرات وقائية مثل انتشار الأمراض المزمنة وانتشار عوامل الخطورة للإصابة بها. ففي الوقت الذي كانت الوزارة تتوسع في الصرف العلاجي، غفلت عن تدهور مؤشرات لا تقل عنه أهمية إلى أن أصبحنا نحجز المراتب الأولى في كل من السمنة والتدخين والسكري وأمراض شرايين القلب وحوادث السيارات… إلخ لعلنا نتعلم من تجربتنا هذه ونحن نعد "كشف حساب للوقاية" للوزارة بدافعين، هما دافع "التعلم من الأخطاء" و"التخطيط للقادم". من أهم مفردات "كشف الحساب" التساؤل لماذا عاشت وزارة الصحة فيما مضى أحقاباً وهي تركز في غالب منجزاتها على دور العلاجي وتصبح "وزارة الطب" (بل أقول وزارة المرض) وأغفلت إلى حد كبير الدور الوقائي الذي يجعلها أقرب إلى "وزارة الصحة العامة" كما تسمى في كثير من دول العالم. وبالمناسبة، هذه الحقيقة عن الوزارة جعلتني ذات يوم معارضاً لفكرة نقل "الصحة المدرسية" من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الصحة لأنها لم تكن -ولا زالت- غير جاهزة لاستيعاب وتفعيل هذا الجهاز الحكومي ذي الدور الوقائي بامتياز. ومن مفردات "كشف الحساب" التساؤل لماذا لم يكن لوزارة الصحة دور مؤثر في توازن سياسات التعليم الطبي في إعداد الكوادر الصحية بين تخصصات الرعاية الصحية الأولية واحتياجات المستشفيات الثانوية واحتياجات المستوى الثلاثي التخصصي حسب احتياجات البلد (وليس فقط الرغبة الشخصية). ومن مفردات "كشف الحساب" التساؤل هل كان لابد من تكليف وزير (غير طبيب) يحدد اتجاه البوصلة بمنطق عقلاني محايد ودون التأثر بالتخصص حتى نلمس هذه التوجهات الوقائية ونتفاءل بها؟ إن أمام الوزارة معاناة (وأرجو ألا يكون تخبطا) في التوجه نحو الوقاية والتوعية الصحية وتعزيز الصحة. وقد يكون ضعف الاستثمار في البشر في هذه التخصصات أهم معالم هذه المعاناة، فضعف أو شُح الكوادر الوطنية المتخصصة في هذه المجالات شح كبير نسبياً بسبب التوجهات التي كانت "تقدس" العمل العلاجي ولا تعطي التخصصات الوقائية حقها اللازم في التطوير. ومن المعاناة التي قد تحدث أن التفكير في استيراد "حلول الخواجات" في تعزيز الصحة قد يخضع ل "التجربة والخطأ" بالرغم من كلفتها. فإن تيسر لوزارة الصحة في السابق "استيراد" الكوادر والتقنيات العلاجية، فسيصعب استيراد "قوالب" التوعية الصحية وتعزيز الصحة وكوادرها لأسباب عدة، أهمها اختلاط ما هو "طبي" بما هو "اجتماعي" في هذه التخصصات، مما يحتم وجود خبرات وطنية متنوعة وعلى أعلى المستويات للمشاركة بجدارة في أي حلول وتوجهات في مجالات الطب الوقائي والتوعية الصحية وتعزيز الصحة، فهذه التخصصات علوم وخبرات لها أسس من التجارب والبحوث العلمية يجب احترامها وعدم تجاوزها أو الإفتاء فيها دون علم، تماماً كما يحدث في التخصصات العلاجية الدقيقة. وعلينا التساؤل في كل مبادرة توعوية أو وقائية تهدف إلى تعزيز الصحة، هل تؤدي للهدف المطلوب، (Does it work?) وكيف سنعرف؟ إن مرور وزارة الصحة ب "عصور جاهلية" في الاهتمام بالتوعية الصحية وتعزيز الصحة وستحتاج عصوراً من "التنوير" وفتح المجال للتواصل مع كافة المؤسسات الحكومية والخاصة والخيرية، ومع المؤثرين في الإعلام ومع الإعلام الجديد. وأن يستثمر كل وقت وجهد وخبرة لتعويض ما فات. أقول هذا الكلام ونحن لا زلنا أمام "بصيص أمل" ومجرد "ضوء في آخر النفق" وسنتحمس لهذه التوجهات أكثر لو تجسدت في واقع متبلور، وأصبحت توجها مؤسسيا لا يخضع لتكليف مسؤول بعينه أو تغيير سياساته. فليس أمام المؤسسات الحكومية الطبية "شيكا على بياض" ولا ميزانيات لا محدودة حتى نعود إلى إهمال الوقاية واللهاث فقط خلف العلاج، وعلينا على كل حال أن نتفاءل بالوقاية. ودمتم سالمين د. صالح بن سعد الأنصاري @SalihAlansari المؤسس والمدير العام التنفيذي لمركز تعزيز الصحة @SaudiHPC