تمرّ بالمرء ليالٍ تضيق به الوسيعة، وتبدو الدّنيا بعينه أبيض وأسود، ولا شيء سِواهما يُذكَر أو يُرَى! أينَ الذي كان بالأمسِ يشعّ أُنسًا وسرورًا؟ ومَن كان بابتسامتهِ يتخطّى المفاوز والصِّعاب؟ مهلًا رُويدك.. لا تبتئس، "فلا بدّ للمحزونِ من فيضان" كما يقولون. إنه لغريب ومُستنكَر أن تجدَ من اعتدت مُشاهدته وهو طَلِق بشوش؛ يتقَوقع، ويتخذ فؤاده للقرفصاء ملاذًا آمنًا للخروج من سؤالات الناس! وحقيقٌ بالنفس من أخذ حظها من الشّعور، وإن كان حُزنًا وألمًا.. فحقّ لمَن حزن وبكى، أن يخلصَ مما هو فيه من الأسى. فحين يعتزل الواحد منا دنياه، ويلقي بها عرض الحائط، وهو مكروب لا يُصيب منها شيء، حتى إذا ما قضى من أحزانه وطرًا، استفاق وجَلت غشاوة عينيه، فرُدّت له بصيرة قلبه، وسرور روحه، وانشراح صدره. وكذا الحال مع الصغار، فإن من السلامة النفسية للطفل تعبيره عمّا يعتلج صدره الصغير، سرورًا كان أو حزنًا، ويتركّز دور المربي في تهذيب طريقة التعبير، بل وتدريب الصغير عليها حتى يألفها ويتمثلها في كلّ مرة تصيبه نوبة الشعور الحادة. وجدتُ من الأطفال من يُفسده الفرح، فما إن يفرح هذا الطفل تجد كل شيء آيل للسقوط! فهو يتفنن في الإيذاء النفسي والجسدي لمن حوله، ووجدتُ من يفسده الحزن، فيخسر كل الفرص المقدمة له، جرّاء اتباعه لموجة الحزن، ووجدتُ الخير كله في تهذيب تلك المشاعر، وتخصيص دروس عملية ثم اسقاطها في المواقف فور حدوثها وتذكيرهم بالصواب ليلزموه. إن من أحد أدوار المعلم الأساسية هو مساعدة الطفل لفهم طباعه وشخصيته، ماذا يفعل عندما يغضب؟ وعندما يضيق؟ إعطاء مقترحات عملية وواقعية يسهّل للطفل من الوقوع في الحُفَر مرات وكرّات. والحديث في هذا الباب واسع جدًا، ما يهم ذكره هو أن كل شعور يمر به الطفل بحاجة لتنفيس، وبطبيعة الحال فإن طرق التنفيس تختلف باختلاف جنس الطفل ثم ميوله الشخصية، فالبنات يملنَ في الغالب لممارسة الأنشطة الفنية، بينما لا يحدث هذا – في الغالب- مع الذكور. أحد أطفالي وجد متعته في تصفح موسوعات الحيوانات والحديث عنها، هذا المقترح الذي منعه من استمرارية أذية أصدقاءه. وآخر سلِم أصدقاءه منه لما أشغلتُ يده بقطعة عجين صغيرة تمكّنه من الاستماع للدرس بينما يداه مشغولة. وإن من الأطفال من يكبت شعوره، تجد المواقف تمرّ عليه سواسية، فهو هُو وقت الحزن وهو هو وقت الفرح، ويعدّ هذا مؤشر – في الغالب – لضرورة مراجعة ملف الطفل ولربما العمل عليه لإخراج مخزونه وفهم دوافعه. والمعلم الفطن الذي يترك مساحة بينه وبين الطفل يفرغ بها شعوره ما لم يؤذ نفسه والآخرين، ولا يكثر اللوم للطفل لينضمّ مع أصدقاءه. من المواقف المتكرر حدوثها هو انزعاج أحد الأطفال لأسباب مختلفة ثم قراره بأن ينعزل عن حلقة الدرس ليجلس منفردًا بعيدًا في كرسيّ في أقصى الفصل أو تراه يخرج من الفصل! التصرّف الذكي هو وجود المعلمة المساعدة قربه والتأكد من أن وجودها مرغوب، وفي حال رفضه، فإن من السلامة تركه وعينها تراقبه من بعيد. من الروضات مَن يشغلهم فهم الطالب للدرس، بينما هو جاهل لنفسه ولكيفية الإفصاح والتعبير، وهذا لعمري ضياع وتيه. فالدرس مصيره الفهم ولو تأخر، لكن النفس البشرية حريّ بالمرء أن يقترب منها حتى تتكشّف له نفسه ويحدث هذا منذ مرحلة الطفولة المبكرة. ينطبق الأمر عينه مع الناضجين أيضًا، فالإنسان الذي يحسن التعبير عن حاله وما يحسّ به، تجده واضحًا، منشرح الصدر مرتاح البال، على عكس من كبَت شعوره، وتركه فيه يتخبّط بلا وُجهة تُذكر، وظنّ أنه انتصر على ما يصارعه، هيهات له من النجاةِ وهو لم يدعُ لشعوره مساحة للتعبير! هذا الأخير ستطول مدّة شفاءه ممّا هو فيه، قد يقوم ويقعد، ينام ويستيقظ والهمّ يُصاحبه مصاحبة الظلّ لصاحبه، ولو أنه ترجّل من الدنيا ليعطي نفسه قدرها وحقها، ثم أنّه عاود امتطاء صهوة الحياة بنفسٍ رضيّة مرضيّة لكان خير. إيناس حسين مليباري جامعة الملك عبد العزيز| مركز الطفولة [email protected]