يعتبر الصديق "الخيالي" الذي يبتدعه الطفل صمّام أمان لنموه وتطور شخصيته. فالطفلة ربى لا تكف عن التحدث الى شخص أطلقت عليه اسم "باسم مطر"، سيارته جميلة ويزورها من وقت الى آخر. أما جنى وصديقها السيد دبدوب، وهو دب صغير تضحك معه وتلعب ولا تنسى أحياناً أن تعلمه بعض أصول اللياقة وحسن التصرف: "دبدوب توقف عن التفوه بالكلام البذيء. أنت تعرف أن ماما لا تحب ذلك. انتبه، وإلا وضعتك في الزاوية". وإن اتخذ شكل دمية أو لعبة أو مجرد اسم، فالصديق الخيالي نموذج كلاسيكي من الطفولة. يظهر عندما يبلغ الطفل سنته الثانية فيدرك أنه ووالدته شخصان منفصلان، وعليه أن يتعلم العيش مستقلاً عنها طويلاً. فكيف يتحمل غياب والدته؟ بأي وسيلة يعوض هذا الفراغ؟ بابتداع شخصية مميزة لطيفة مستعدة دائماً لمشاطرته الأفراح والأتراح وأوقات اللعب والمزاح. يؤكد أطباء النفس "أن الطفل سينشئ عالمه الخاص الذي يحميه ويعطيه الشعور بقدرة لا متناهية عبر ذلك الحديث الخيالي مع "مخلوقه" الأثير. وبمقدار ما يعي أن هناك أشياء مستحيلة وأن رغباته ليست أوامر، يعوض هذا النقص بابتكار شخصية تخضع لمتطلباته وتلعب معه من دون أن تحاول السيطرة عليه". ولا يظننّ أحد أن الصديق الخيالي حكر على الطفل الوحيد. فبعضهم ممن لديهم إخوة وأخوات يشعرون بالحاجة الى اللعب مع صديق أكثر وداعة وحتى أكثر جهوزاً لتنفيذ رغباتهم. فعندما يفضي الطفل بهمومه الى شخص رهن بنانه يسمح لنفسه بتقبل الممنوعات متحرراً من تخيلاته بما فيها تخيلات العنف". والصديق الخيالي يتحمل أيضاً أبشع الأدوار. وأحياناً قد يرتفع الصوت خلال محادثة خيالية: "أيها الشرير، لماذا رميت الطفل من النافذة؟ إذهب الى النوم. لا أريد أن أراك بعد اليوم". صرخ وائل فيما أخته الصغيرة ديمة، وعمرها شهران، تنام في الغرفة المجاورة. وليس من الضروري أن يكون المرء طبيباً نفسياً ليدرك أن وائل عندما يسمح لنفسه بالتعبير هكذا عن غيرته، يتحرر من كمية كبيرة من الغضب والشعور بالذنب. وغالباً ما يصبح الصديق الخيالي هو الوحيد الذي يسمع ويؤاسي عندما تسير الأمور في شكل سيئ "وعدني والدي بأخذي الى مدينة الملاهي، لكنه اتصل الآن وقال إنه مشغول جداً. ويخبر عمر صديقه الخيالي. أما زينة فأسرت لصديقتها المفضلة أنها مستاءة لأنها لم تجد حذاء مشابهاً لحذاء صديقتها". عندما يعبر الطفل عما يزعجه يساعده ذلك على هضم امتعاضه في سرعة أكبر. وإذا كان الصديق الخيالي عوناً كبيراً للأطفال، فإن الأهل لا يعرفون كيف يتعاملون معه، وأحياناً يقلقهم وجوده. هل الطفل "يهلوس"؟ هل يدرك ما هو حقيقي وما هو خيالي؟ هل يجب تجاهل صديقه الخيالي أو مشاطرته وجوده؟ يؤكد أطباء النفس أن في استطاعة الأهل الاطمئنان وعدم تضخيم الأمور. فالطفل يعرف أن صديقه الخيالي غير موجود بتاتاً. ويظهر ذلك جلياً عندما يفاجئه أحدهم خلال حديث مع هذا الصديق، ويسأله عما يجري، غالباً ما يسكت وتحمر وجنتاه وينتقل الى اللعب بشيء آخر. فعلى الأهل هنا أن يحترموا خصوصية الطفل وأن يدركوا أن الحديث الدائر بين الطفل وذاته الأخرى لا يعنيهم. مثلاً عندما يسأل الولد أمه أو أباه مع من كان يتكلم على الهاتف، فغالباً ما يسمع هذا الجواب: اهتم بأمورك ولا تتدخل في ما لا يعنيك. إذاً، الأمر سيان مع صديقه الخيالي. فالحديث هنا أيضاً خاص جداً. طبعاً، إذا احتل الصديق الخيالي حيزاً مهماً في حياة الطفل، يبدأ بالتأثير السلبي فيه، وفي جو العائلة. فكل شخص حر في التصرف كما يرى مناسباً. ويمكن للأهل إضافة صحن الى المائدة باعتبار أن الصديق سيشاركهم الغداء. لكنهم غير مجبرين على التحدث معه، وكأنه موجود حقاً. فعدم المبالاة بوجود هذا الصديق غير الموجود أصلاً يساعد الطفل على عدم الاختباء أو الشعور بأنه مختلف. الأفضل إذاً عدم التخوف من هذا الموضوع، بل على العكس، الصديق الخيالي يسمح للطفل بالتنفيس عما يزعجه وبتسلية نفسه إضافة الى أنه يساعده على إيجاد هويته. وفي أغلب الأحيان فإن الصديق الخيالي، مهما كان دوره وحضوره قوياً، يختفي وحده عند سن معينة، وعندما لا يعود الطفل يحتاج إليه. تقول منى إن ابنتها غنوة تعلّقت، وهي في الثالثة تقريباً بحصان أزرق صغير. وكانت تمضي النهار بطوله في غرفتها تحادثه وتضحك معه أو تؤنبه. وفي المساء كانت تأخذ فتات الخبز لتطعمه قبل أن تنام. ولكن بعد أسابيع أخبرت العائلة أن الحصان الأزرق مريض وهو عاجز عن الأكل. وبعد خمسة عشر يوماً اختفى وحلت محله صديقة حقيقية تعرفت إليها غنوة في المدرسة. وتجدر الإشارة الى أن الصديق الخيالي هو عبارة عن حاجة الى حديث داخلي خاص، ترافق الإنسان طوال حياته وإن اختلفت الأشكال. في الطفولة هذه الحاجة تأخذ شكل دمية: حديث مع دمية أو شخصية خيالية تحمل اسم بطل أسطوري أو طفل آخر يثير الإعجاب. وعند المراهقة يستمر هذا الحديث عبر دفتر يوميات يسر إليه المراهق آماله وآلامه، أو عبر أشعار تعبر عن الأحلام الأشد سرية أو رسائل تكتب الى أصدقاء ولا ترسل أبداً. وحتى في سنّ الرشد، فإن الحديث الشخصي يرافق الإنسان في السيارة أو في غرفته عندما يكون وحيداً وهو يسمح له بأن يعيش بعض المواقف من جديد، وبأن يعبر عما يزعجه كأن يكرر البعض بصوت عال المشادّة التي حصلت بينهم وبين مديرهم في العمل ويزينوها بحجج تمنوا لو يملكون الجرأة على التعبير عنها طوال حياتهم. ميراي يونس