على خلاف الدول الأوروبية، كانت نشأة الإعلام في أمريكا، معتمدة على الملكية الفردية، خصوصاً في جانب الإعلام المرئي. كانت شبكات البث الأمريكية تنمو وتتوسع كأي منشأة اقتصادية رأسمالية، وما عدا بعض الأنظمة الفيدرالية في شأن الترددات والمحتوى، كانت الحرية كاملة لها لتقدم ما يناسب المشاهدين ويعجب المعلنين. استمرت الحال على هذا المنوال، لكن التأثير الرسمي للبيت الأبيض عليها لم يكن خافياً. في أوقات الأزمات الكبرى، تغيرت الأمور وأصبح الإعلام – المرئي خصوصاً – صوتاً للبيت الأبيض، ومنفذاً لسياساته الخارجية. يقول بيترارنيت مراسل CNN في العراق لصحيفة الواشنطن بوست "خلال حرب الخليج 1991م أدركنا أن الإدارة الأمريكية تستخدمنا لتمرير وجهة نظرها، وأن الإدارة الأمريكية آنذاك كانت تخشى من أن يؤدي نقل الأخبار بمصداقية عالية في بغداد إلى فشل الحرب التي تشنها ضد العراق". في الفترة نفسها الزمنية طلب مدير شبكة NBC من العاملين عدم بث أي مادة قد تفيد الأعداء (العراق)، كما قامت بفصل أحد المراسلين لأنه؛ صور آثار "عاصفة الصحراء" في العراق، علماً بأن تقريره لم يعرض! بناءً على توجيهات الإدارة الأمريكية أرسلت CNN تعليمات لمراسليها في أفغانستان والباكستان "بعدم نقل أي أخبار تعكس وجهة نظر الحركة" وأشارت الواشنطن بوست إلى هذه التعليمات "يجب أن نضاعف جهودنا من أجل التأكد من أننا لا ننقل الأحداث من وجهة نظر طالبان، كما يجب أن نشير في تغطيتنا الإخبارية إلى قيام طالبان باستخدام الأفغان كدروع بشرية!! إلى جانب مسؤوليتها عن مقتل 5 آلاف أمريكي في انفجارات سبتمبر"، و:"أن طالبان لا تزال تؤوي – الإرهابيين – المسؤولين عن تلك الانفجارات"!. ومن يتابع CNN بالذات أوقات الأزمات والحروب يلاحظ أن هذه الشبكة تحولت إلى ما يشبه التلفزيونات العربية، فهي لا تنقل وجهة نظر الطرفين، بل تكتفي ببيانات وزارة الدفاع والخارجية والبيت الأبيض. حتى بيانات من تسميهم الإرهابيين لا تنقلها حتى لا تتحول هي – بزعمها – إلى بوق لهم! جميع شبكات التلفزة الأمريكية فوكس CNN – NBC – ABC التزمت توجيهات الإدارة بعدم عرض صور القتلى والجرحى المدنيين الأفغان والعراقيين. ليس ذلك فحسب بل وافقت طوعاً – بناء على المصلحة القومية – على عرض الصور قبل بثها على السلطات الأمريكية. لم يكن أحد يتصور أن حامية الحرية حول العالم، والمدافع الأول عن الديمقراطية تنهج الأسلوب الذي تمارسه وسائل الإعلام الحكومية في العالم الثالث، وليس هذا فحسب بل تعتمد قوانين طوارئ تشبه تلك المطبقة في الكثير من البلدان العربية. تحسب الإدارة الأمريكية أنها وزارة إعلام فتوجه الإعلام حسب مصالحها ورؤيتها للأحداث. من يتصور أن تعرض التلفزيونات الأمريكية الرئيس الأمريكي يصافح الأطفال الأمريكان الذين يتبرعون بدولارات قليلة للحملة المزعومة ضد الإرهاب، ولمدة نصف ساعة، في الوقت الذي يتساقط فيه أطفال الأفغان والعراق صرعى تحت الصواريخ الأمريكية؟!! ورغم جهود "وزارة الإعلام الأمريكية" الضخمة لحشد التأييد ضد الإرهاب كما تزعم إلا أن جهودها – حسب ما تقول مازالت ضعيفة – فهي تحتاج ل"التصدي للتضليل الإعلامي الذي تمارسه طالبان وشبكة القاعدة"!!! تريد "وزارة الإعلام الأمريكية" والتي يمكن أن يضاف إليها العالمية أن يقتصر ما يشاهده العالم على ما يريده الجانب الأمريكي، وتبرير حملاتها العسكرية في العالم العربي والإسلامي بأنها "للدفاع عن العالم الحر" ولحماية "قيم الحضارة البشرية" (أو بالأحرى الغربية) وأيضاً: "لصيانة كوكبنا" من الخطر! مع هذه الجهود ترى الإدارة الأمريكية أنها غير كافية فقررت إنشاء ثلاثة مراكز إعلامية في واشنطن ولندن وإسلام أباد؛ للتصدي للتضليل الإعلامي العملاق (! ) الذي تقوده طالبان والقاعدة (وداعش أخيراً). رغم الجهود اليسيرة لقناة الجزيرة في نقل صورة أخرى للعالم العربي تجاه ما يحدث في بلدانهم، إلا أن الأمر أقلق الإدارة الأمريكية بالكامل، وبذلت جهوداً ضخمة سابقاً ولاحقاً لتحجيم هذه القناة. واعتمد الضغوط السياسية وتشويه السمعة فضلاً عن التهديدات المتكررة لها بعدم بث بيانات من تصفهم بالإرهابيين أو المشتبه بهم، وهذا رغم أنه يخالف أصول المهنة الإعلامية أيضاً يخالف طريقة الإدارة الأمريكية بتهديد قنوات أجنبية! ولئن انحنت قناة الجزيرة أحياناً للضغوط فإن الإعلام الاجتماعي وصل لكل بيت، والحقيقة أصبحت غير محتكرة، والخبر أصبح ينتقل خلال ثوانٍ، والصور الحية تنقلها الأجهزة الذكية دون رقابة أو جهة محتكرة، لقد ولى زمان "وزارة الإعلام الأمريكية".