بسمة بريئة.. وعينان تبرقان طموحًا وأحلامًا.. كالشمعة المتقدة التي نحافظ عليها من هبّات الرياح خشية أن تطفئها. نخشى عليها الاختناق الذي يحبس عنها هواءها الصحي. نطمح أن نستمتع بها لتمكث بين يدينا طويلًا. هي من زينة الحياة الدنيا التي لا غنى عن وجودها، وليس لمن حُرمها إلا الصبر. أطفالنا نعمٌ تتجدد كل يوم.. كل دقيقة فيه، وسلوكنا معهم بناء أو هدم. ويبقى السؤال مطروحًا : كيف نستثمر هذه الحياة التي ستقدّر لهم؟ كيف نتلمس صفاتهم المميزة ؟ وكيف تندثر دون أن نتنبه لها؟ أناقش هاهنا صفة القيادة تحديدًا باعتبارها إحدى صفات التميز في الأطفال، وما يكون من دور البيئة في الكشف عنها وتنميتها. وقد يلوح في الأفق سؤال: “هل هناك سمات بارزة للأطفال نعرف من خلالها أنهم قادة؟ بالطبع نعم، فمعرفة الشخصية القيادية أولًا يتم تحديدها من خلال سرعة البديهة، و حب المبادرة، ومساعدة الآخرين، و القدرة على اتخاذ القرار، والقدرة على إدارة الضغوط و الأزمات و التصرف، و اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة، فكلها مهارات قيادية تدل على أن الشخص مؤهل لكي يصير قائدًا بالفطرة، والبقية التي ليس لها هذه الناحية الفطرية، فالعلماء قسّموا البشر إلى ثلاثة أنواع: الأول هو 1% من البشر، وهم قادة بالفطرة، والثاني هم 98% ، يكتسبون القيادة بعد ذلك من خلال التدريب المحدد و البرامج المعينة التي يخضعون لها، وهم لديهم استعداد للقيادة، والثالث 1% وهؤلاء مهما درّبتهم لم ولن يكتسبوا القيادة” . نسمع في المثل العامي: ابن الوز عوّام، وهذا المثل هو فلك يدور فيه أثر البيئة، وفي ” عوّام” تحديدًا تجتمع عناصره. بداية الذي جعل هذا المثل منطلقي هو معناه، جاء في لسان العرب: العوم : السباحة، ورجل عوّام : ماهر بالسباحة، وفرس عوّام : جواد . وابن الوز: يشير إلى أثر المربي، ويضرب المثل على ابن من اعتاد الحياة فوق الماء لابد أن يظهر ذلك في إمكانياته ومهاراته. فكل أبوين يتطلعان لابن عوّام في هذه الحياة، قائد محترف في حياته، يدير نفسه ويملك إدارة من معه ممن يقابلهم في حياته بقيادة تميّزه وعمله ، وترفعه عن أن يكون منقادًا، فهو إما عوّام أو فردٌ من العوام! وشتان بينهما إن كنّا نتطلع إلى عزّة جيل بقيمه وأخلاقه. وحروف هذه الكلمة تشكل العناصر التي بها أسرار اكتشاف القائد من أهل الطفل وبيئته الأسرية، وقد جمعتها حروف ” عوام”. (ع): العائلة الكبيرة والشجرة الأساس التي منها انبثق هذا الفرع الوليد. (و): الوالدين، ومن يقوم مقامهما عند فقدهما. (ا) : الإخوة، وجودهم أو عدمه. (م): المساعد، والمعين، من الخدم والسائقين وغيرهم. كل عنصر من هؤلاء يشكل وجوده في حياة الطفل عاملًا مهمًا في اكتشاف قياديته وتفعيلها في حياته، أو إطفاء جذوتها، “فالمناخ الأسري بلعب دورًا مهمًّا في تنمية الطفل القائد حيث يحقق أهم مطالب النمو النفسي والاجتماعي؛ لأن الطفل في ظل هذا المناخ يتعلم التفاعل الاجتماعي و يتعلم المشاركة في الحياة اليومية، كما يتعلم ممارسة الاستقلال الشخصي،…والطفل يكتسب عن طريق أسرته الحكم على الأشياء و المواقف و الخبرات، وتتأثر تلك العملية بالجو الأسري وما يسوده من تعاون واستقرار أو تشاحن واضطراب” . فحين نقف مع العائلة والوالدين في الأثر والبصمة على قيادة الأطفال؛ تنطلق أمام أعيننا مثلًا صورة لتلك العوائل التي تشتهر بالتجارة والغنى أبًا عن جد، أو بالأدب والشعر والثقافة، أو العلم والفتيا وغيرها، من المناصب والمكانة القيادية المجتمعية كيف يؤثر ذلك في نباهة الأجداد وتعاملهم مع أبنائهم وأحفادهم وكيف يكون تصرف الصغار بالمقابل مع رؤية الظروف التي تثير براعم القيادة في نفوسهم وتسقيها، فمثلًا ذلك الوالد الذي اعتاد التجارة والتعامل بالأموال واختبار أمانة من يود العمل معهم سيكبر أبناؤه ولديهم حساسية في التعامل مع المال، كسبًا وإنفاقًا، وتنمو فيهم قيادة مالية مميزة وهم يشاهدون هذه الأموال ويعتادون الجرأة في الأخذ والعطاء الذي يلزم منه التعامل مع الكبار، والجدية في التنبه للطماعين والسرّاق من حداثة أسنانهم لاسيما إن أدخلهم والدهم في هذا الميدان مبكرًا فمن السهل اكتشاف هذه المهارة وتنميتها وصقلها بالشكل الذي يجعل من هذا الطفل بذرة لمزارع أجيال ومجتمع صالح واعٍ. وقس على هذا المثال أمثلة كثيرة ممن اعتاد الإعلام والكاميرات ومكبرات الصوت حول والده وفي منزله باستمرار وهكذا. ولا يخفى أن صحة الوالدين النفسية والجسمية ومدى الوعي والثقافة ومستوى التعليم والانشغال عن البيت بوظيفة لديهما لها أثر كبير في الكشف عن مهارة القيادة لدى الأبناء، ويختلف ذلك لدى الأسر باختلاف توفر هذه الظروف الوالديّة، يقول خبراء التربية و التنمية: إن العمر المناسب لغرس الفكر القيادي والقدرة على تحمل المسؤولية هو عمر الطفولة،. وتعد السبع سنوات الأولى من حياة الإنسان المدة المثالية للتربية القيادية كما يرى د.طارق السويدان ، مما يعني أنّنا أمام تحدٍّ كبيرٍ مع انشغال الكبير و الصغير بالأجهزة عن المسؤوليات و المهام و التربية، وأثر ذلك غير خافٍ على ضعف اللعب الجسدي والمهارات الحركية، واللغوية مما سيؤثر على سن جوهري من عمر تربية القيادة في الأطفال ما لم تتنبّه الأُسر لذلك. وأما الإخوة فوجودهم وعددهم مع العناصر السابقة له سهم في الكشف عن القيادة، فمثلًا قد يكون هناك ابن منذ أن ولد وحتى كبر وهو في المنزل وحده، فعاطفته ومهامه ومهاراته تختلف عن الطفل الذي له إخوة يشاركهم في المنزل المهام والعاطفة والألعاب، ومستوى ظهور القيادة عند كل ابن وملاحظة الآباء لها تكون بشكل أدق غالبًا كلما قلّ عدد الأبناء وكان تركيز الآباء لاهتمامهم على تربية أبنائهم أوفر . وقد يشارك الإخوة في الكشف عن القيادة مع بعضهم البعض، وهذا يظهر معه حس المسؤولية والمبادرة والقدرة على تحمل الضغوط وتجاوز المشكلات، واستقلالية التفكير، وإبداء النقد منذ نعومة أظفارهم. وإنّ من يسكن المنزل و يشارك أفراده معيشتهم له أثر فيهم؛ فوجود الخدم والسائقين أو الممرضين أو غيرهم حسب حاجة الأسر مؤثر في ما سيقوم به هؤلاء الأبناء من سلوكيات تُظهر استعدادهم للقيادة مع التأكيد على دور الآباء في كل ذلك، فالطفلة التي اعتادتْ أن تُنادى إلى الطعام لتأكل فقط ليستْ كالتي تشارك في التفكير والتقطيع والتجهيز والتزيين ثم ما يترتب بعد ذلك من تنظيف وغيره، فهذه تسقى بذور المسؤولية التي تظهر معها الاستعدادات للقيادة . وبالمقابل فإن الطفل الذي لديه بوادر القيادة تظهر مواقفه جلية ومبادراته دون الحاجة لإيعازٍ لكنه قد يجد من يوجه تلك المهارة من داخل منزله ليكون رجلاً قياديًا مستقبلًا أو أن يحجم؛ لأنه لم يجد فرصة ليشارك في إبداء مهارته وآرائه، أو ربما انهال عليه كلامٌ أو سلوك أذبل برعمه، وردم مهاراته قبل توقدها، أو ربما من فرحة أهله بقيادته وجد تأييدًا مطلقًا على تصرفاته التي تعد تسلطًا أحيانًا، وهنا واجب المربي فلابد ” أن يتفهّم الطفل القيادي عمل الفريق، وتبادل أدوار القيادة وهذا يكون غالبًا مفيدًا في ترويض السلطة، …وجميل أن تتحدث مع طفلك عن الفرق بين التسلط والتعاون، ولتوضيح ذلك يمكنك أن تطرح عليه أمرًا بلهجة رئيس للمرؤوسين… ثم تفعل الشيء نفسه بصفة قائد فريق،… واطلب منه أن يبين الفرق بين الأسلوبين” . وتثبت “معظم الدراسات التي أجريت على الأطفال في الأسر المختلفة أن الأطفال الذين تفرض عليهم الأسرة نوعًا من الحماية المفرطة؛ فتقضي لهم كافة الطلبات دون أدنى اعتماد على النفس هم أقل مهارة في كافة الجوانب من الأطفال الذين يعيشون في الأسر التي تحمّل أطفالها بعض المسؤولية في قضاء احتياجاتهم بما يتناسب مع مرحلتهم العمرية” . وكي يكون الطفل مؤهلًا للقيام بدور القائد في المستقبل هناك عدد من الإجراءات التي تقوم بها الأسرة منها : – إشراك الطفل في جلسات أسرية للتحدث معه حول ما يشغله وحول موضوعات مهمة في المجتمع. – تقبّل أسئلة الطفل وتشجيعه عليها. – وضع الطفل في موقف “الراوي” أو ” المتحدث”. – مساعدة الطفل وتوجيهه للاعتماد على النفس. – الاهتمام بالدعم النفسي و الوجداني للطفل. – تدريب الطفل منذ الصغر على وضع الهدف والتخطيط لتحقيقه، وغير ذلك مما هو ميدان إبداع لأفكار تربوية. ختامًا .. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته …، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ، … ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ” [ متفق عليه ] . فعلينا استشعار لفظ الرعاية حق الاستشعار حتى ينمو البرعم سليمًا منتعشًا ويخرج لنا براعم صحيحة يومًا ما.. وأبناء اليوم آباء غدًا.. أطفال قياديون يعني مؤثرين لا متأثرين، يتطايرون من أهدأ رياح.. اكتشفوا أبناءكم وساعدوهم على العوم في ماء نقيّ طاهر، حتى يميّزوا التلوّث ويستطيعوا مقاومته، فإنّ من عرف النقاء لم ينخدع بالتلوّث. **************** المراجع: القائد الصغير ضرورة لبناء مستقبل جديد- هاني السيد العزب. لسان العرب- ابن منظور. دور الأسرة في إعداد القائد الصغير- هاني السيد العزب. دليل الوالدين في تربية الأطفال الموهوبين- عدد من المؤلفين، ترجمة: د.شفيق علاونة. فن صناعة القرار عند الطفل الصغير- د. عبدالعظيم محمد.