أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس المسلمين بتقوى الله – عزوجل – وتزكية الأعمال والأقوال في شهر القرآن بالتقوى والإخلاصْ، والمبادرة بالتوبة، قبل أن يؤخذ بالنواصْ. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: معاشر المسلمين، ها قد أظلنا شهر المَرَابِحِ بظلاله ونَوَالِهْ، وجمالِهِ وجلالِهْ، شهرٌ عاطرْ، وفضله ظاهرْ، بالخيرات زاخرْ، انبلجت بِيُمْنِه الصباح، وتأرَّجت الأمصارُ بِعبقه الفوَّاح، شهر أشرقت في أفق الزمان العاتم كواكبه، وعادت – والعود أحمد- بسلامة الإياب أمجاده ومراكبه؛ لينضح أرواحنا اللَّهفى بالرَّوح والريحان، والازدلاف إلى المولى الدَّيان، الله أكبر، شهر رمضان نفحة ربانية تُفْعِمُ حياة المسلمين بِالذِّكر والقُرُبَات، وفيه تلهج الألسن بِعاطر التلاوات، وتبهج الأنفس بهدي الصيام ونور القيام، وَفَد لِيُوقظ رواقِد الخير في القلوب، ويعطِّل روافد الحُوب، ومساقي الذنوب، وفَدَ ليُرهف أحاسيس البِرِّ في الشُّعُور، ومعاني الإحسان وبسْط الحبور، فتبرأ النفوس الشاردة الكزَّة من أثقال الحياة، وتتخفف من أوهاق المادة المعناة، فالأذن سامعة، والعين دامعة، والروح خاشعة، والقلب أوّاه، هذا نسيم القَبُولِ هَبّْ، وهذا سَيْلُ الخير صَبّْ، وهذا الشيطان قد غُلَّ وتَبّْ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدَت الشياطين ومردة الجن، وغُلِّقَت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفُتِّحَت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر” (أخرجه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح). وأضاف قائلاً: الصيام تُرسٌ للمسلم من الخطايا والأوزار، ولَأْمةٌ دون التلطُّخ بالأدران والأكدار، وجُنَّةٌ واقيةٌ من لهيب النار، ألا فلتجعلوا لِجَوَارِحِكُم زِمَامًا من العقل والنُّهَى، ورَقِيبًا من الورع والتُّقَى، حفظًا للصِّيَامْ عن النَّقص والانْثِلامْ، ولا يتحقق ذلك إلا بصوم الجوارح عن الموبقات والفوادح، وعفَّة اللسان عن اللغو والهذيان، وحفظ الكَلام عن الكِلام، وغضِّ البصر عن الحرام، وكبح الأقدام عن قبيح الإقدام، وبسْط نَدى الكَفْ، والتورُّع عن الأذى والكَفْ، والضراعة إلى الله بقلوب وَجِلَةٍ نقيَّة، وطَويَّاتٍ على صادق التوبة والإخلاص والتوحيد مطوية. وهل كفاء ذلك كله إلا المنازل العلى في جنات النعيم، فيا طوبى للصائمين القائمين. وأوضح فضيلته أن من مَقاصِد الصِّيام العِظام تهذيبَ النّفوسِ وَتَرْقِيَتَهَا، وزَمَّها عن أدْرَانِها وتَزْكِيَتِها، وذلك هو المُرَاد الأسْمى والهَدَفُ الأسْنى من شِرْعة الصِّيام، ألا وهو التقوى، قال الإمام ابن القيم ~:”الصيام لِجَامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليه سواه”، ويقول الإمام الكمال بن الهمام ~:”إنَّ الصوم يُسَكِّن النفس الأمَّارة بالسوء ويكسر سَوْرَتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح”. وقال الشيخ السديس: أمَّة الصيام والقرآن: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، وكان جبريل عليه السلام يدارس نبينا صلى الله عليه وسلم فيه القرآن، وصح عنه صلوات الله وسلاَمه عليه أنه قال:”الصِّيَام والقرآن يَشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصِّيام: أي ربِّ مَنَعْتُه الطعام والشهوة فشفّعْني فيه، ويقول القرآن منعته النّوم بالليل فشفّعْنِي فيه فيشفعان”، (أخرجه الإمام أحمد والطبَرَاني بإسناد صحيح)، فما أعظمه من شهر اغْدَوْدَقَت فيه أصول الِمنَن، واخْضَوْضَرَت فيه قلوب النازعين إلى أزكى سَنَن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ~: ومن تدبر القرآن طالبًا الهدى منه؛ تبيّن له طريق الحق. وأكد أن هذه الأيام المباركة فرصة سانحة لمراجعة النفس وإصلاح العمل بما يحمله هذا الشهر الكريم من دروسٍ عظيمة في التسابق في الخيرات والأعمال الصالحة، متسائلاً هل عَمِلَت الأمة على الإبقاء على الصورة المُشْرِقَة التي اتَّسَمَ بها هذا الدين الإسلامي في وسطيته واعتداله، ومكافحة الغلو والتطرف والإرهاب؟، وهل تصدت لكل ما يُفْسِد على العالم أَمْنَه واستقراره وتعزيز التسامح والتعايش بين الشعوب ونبذ العنصرية والطائفية ؟ هل وقفت بحزم أمام من يُرِيد هَزَّ ثوابتها والنَّيْل من مُحْكَماتها والتطاول على مُسَلَّمَاتها وقَطْعِيَاتها؟ ودعا الشيخ السديس إلى المبادرة إلى فَضْل الله المَمْنُوح قبل فوات الرُّوح، وقال: اجعل هذا الشهر شهر المبادرات؛ تراحموا وتسامحوا، وتصافحوا وتصالحوا، وصِلُوا أرحامكم، واحفظوا أوقاتكم، وتعاهدوا قلوبكم، وحققوا مقاصد الصيام قولاً وعملا، فرمضان فرصة لاستشعار المعاني السامية التي قصد إليها الدين الإسلامي الحنيف، يتوارد في تحقيق هذه المهمة العظيمة الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة والمجتمع ووسائل الإعلام وقنوات التواصل الحديثة، وهل كفاء ذلك إلا المنازل العلى في الجنان مفتحة بالدخول مع باب الريان، فيا طوبى للصائمين، ويا بشرى للقائمين. وأضاف إمام وخطيب المسجد الحرام قائلاً: اجعلوا – يا رعاكم الله – من شهر الصيام شهرًا للمبادرات، فما أجمل أن تنطلق مبادرة الاستعداد وحسن الاستقبال، وتجديد التوبة والإكثار من قراءة القرآن والتدبر، والتسامح والتصافي ونبذ الحسد والأحقاد، وسلامة الصدور والقلوب، ووضع السلاح بين الفُرقاء، والاجتماع وحسن الظن، والصدقة والإحسان، وأعمال الخير والبِرْ، والعناية بالأسرة وصلة الرحم، والاهتمام بالشباب والفتيات، وحسن التربية لهم، ووحدة الأمة والبُعْد عن الخلاف والفُرْقَة، وتعزيز الوسطية والاعتدال، وتحقيق الأمن والسلام، والولاء والانتماء، واللُّحمة الوطنية، ولزوم الجماعة والإمامة، وحسن الختام، والعمل للجَنَّة، والوقاية من النار، وحفظ الأوقات ومواثيق الشرف لمنصات التواصل وقنوات الفضاء والإعلام الجديد، وتسخير التقنية لخدمة الدين وأمن الأوطان.