إن من تعظيمِ الله عز وجل، تعظيمُ ما عظَّمهُ من أمر دينهِ وشريعتهِ – وكلُّ الآتي من عندِ العظيمِ عظيم-؛ ومن ذلك الصلاة؛ تلك العبادة والصِّلة العظيمة بين العبدِ وربِّه. فمن أراد معرفةَ مقامه عند الله تعالى فلينظر كيف هو مع اثنين مما عظَّم الخالق جلَّ وعلا شأنهما؛ (الصلاة والقرآن الكريم[1]) على وجهِ الخصوص. ثم سائر ما جاءتْ به الشريعة بعموم مما تضمَّنهُ الوحي الشريف. -منظومة الخلق والكون بأسره قائمةٌ على الصلاةِ والتسبيح: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ). قال الطبري في تفسيره: "ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فتعلم أن الله يصلي له من في السماوات والأرض من مَلَك وإنس وجنّ "وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ" في الهواء أيضاً تسبِّحُ له". -الملائكة تصلِّي عبوديةً وخشوعاً وإجلالاً: قال تعالى: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ). أورد الطبري: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) له، يعني بذلك المصلون له. وقالت أُمُّنا السيدة عائشة في بيان الآية الكريمة: قال نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "مَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أوْ قائم"، فذلك قول الله: (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)".[2] وورد في حديثٍ آخر قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّي أرى ما لا ترونَ، وأسمعُ ما لا تسمعونَ، أطَّتِ السماءُ[3]، وحُقَّ لها أنْ تَئِطَّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابِعَ، إلَّا وملَكٌ واضعٌ جبهَتَهُ للهِ تعالى ساجدًا، واللهِ لو تعلمونَ ما أعلَمُ، لضَحِكتُم قليلًا، ولبكيتُم كثيرًا .. ".[4] -الصلاة في الشرائع السماوية السابقة: فخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، أقام بناءَ الكعبةِ بأمرِ الله تعالى، ودعا لهذا الوادي المبارك بالخير والرزقِ الوفير وهَوِيِّ الأفئدةِ من أجلِ إقامةِ الصلاة وعبادةِ الله في الأرض: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). بل سأل ربَّهُ أن يجعلهُ وذريته ممن يقيم الصلاة: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ). و توجَّه الأمر الإلهي لموسى وهارون عليهما السلام بإقامة هذه الفريضة العُظمى، فقال سبحانه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). قال السعدي – رحمهُ الله-: "(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي: اجعلوها محلاً، تصلون فيها، حيث عجزتم عن إقامةِ الصلاة في الكنائس، والبِيَعِ العامة". وذلك لما اشتدتْ فتنة فرعون لهم وتضييقهِ عليهم في دينهم. بل قبل ذلك في المشهدِ الأول على جبلِ الطور، توجَّه الأمر الإلهي لموسى عليه السلام: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي). وتواردت البشارة بيحيى إلى نبي الله زكريا وهو قائمٌ يصلي في المحراب، قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). وكان نبيُّ الله إسماعيل عليه السلام يأمرُ أهلهُ بهذه العبادة العظيمة، وبذلك ظفر برضى ربِّه تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا). – فهل يبوء من تهاون بشأنها أو هَوَّن من قدرها بنقيض الرضا الإلهي عنه؟!!-. وقال سبحانه في شأن نبييهِ إسحاق ويعقوب عليهما السلام: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ). وقال عيسى عليه السلام فيما حكاهُ عنهُ القرآن: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا). وأما مريم عليها السلام؛ فحباها ربّها رزقاً مادياً، حيثُ لزِمَت الرزق والنعيم الأسمى – عبادةُ الله تعالى والصلوات وخدمة عُمَّار بيتِ الله من المصلِّين والعُبَّاد- : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًاۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). كيف لا وقد أُمِرتْ أن تقنتَ وتسجد وتركع مع الراكعين: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ). وجاء في وصايا لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). وأخذ الله ميثاق بني إسرائيل: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًاۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ). وامتدح الراسخين في العلم منهم بقوله سبحانه: (لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا). وتوجَّه الأمرُ لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرةٍ من كتابِ الله المجيد بإقامة الصلاة وأمر أهلهِ بها، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَاۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًاۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ). بل المتأمِّل في كيفيةِ فرضيتها يجد ملامح التعظيم الإلهي لهذه العبادة والشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام، حيثُ فُرِضت في السماوات ليلة الإسراء والمعراج إشعاراً بعلوِّ قدرها وسُمو منزلتها ورفعة شأنها. قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج الطويل: "… (ثم عُرجَ بي، حتى ظهرتُ لمستوى أسمعُ صريفَ الأقلامِ). – قال ابنُ حزمٍ وأنسُ بنُ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهما-: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (ففرض اللهُ عليَّ خمسينَ صلاةً، فرجعتُ بذلك، حتى أَمُرَّ بموسى …".[5] فكان أن بُدئ فرضها بخمسين صلاةً ثم وضعَ ربُنا الرحمنُ الرحيم منها ما شاء، إجابةً لسؤال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حتى انتهت إلى خمس صلواتٍ في اليومِ والليلة بأجرِ خمسين صلاة. فللهِ الحمدُ كثيرا .. وشأنٌ لا يقل عظمةً في أمرِ تلك العبادة السامية؛ وهو أن من أراد أن يلقى الله مسلماً فعليه بالمحافظةِ عليها، قال صلى الله عليه وسلم: "من سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاءِ الصلواتِ الخمسِ حيث يُنادى بهنَّ".[6] كما أنها أولُ ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة –على المستوى الفردي-، وهي المحكُّ لقبولِ الأعمال الصالحة من العبد، قال صلى الله عليه وسلم: "أوَّلُ ما يحاسَبُ بِهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصلاةُ، فإِنْ صلَحَتْ صلَح له سائرُ عملِهِ، وإِنْ فسَدَتْ، فَسَدَ سائرُ عملِهِ".[7] بل أعظم النوافل بعد الفريضة هي من جنسِ هذه العبادة العظيمة – الصلاة -، قال صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ فقال: يا محمدُ عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّتٌ، وأحبِبْ ما شئتَ، فإنك مُفارِقُه، واعملْ ما شئتَ فإنك مَجزِيٌّ به، واعلمْ أنَّ شرَفَ المؤمنِ قيامُه بالَّليلِ، وعِزَّه استغناؤه عن الناسِ".[8] ختاماً .. إن كنتَ – يا قارئاً كريماً- ممن حُرِم هذهِ العبادة العظيمة والرزق المبارك، فانطرح بين يدي مولاك وأحدث توبةَ صدقٍ نصوح، واسألهُ صادقاً أن يهديك إليها ويعينك على إقامتها كما يحب سبحانه، فإن الله أكرم من أن يخذل عبداً دعاهُ بصدق. أو حُرِمت خشوعها وأداءها على صفةِ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعلّم، فما المرءُ يُولدُ عالماً!، وقد قامتِ الحجة على كلِّ أحد مع تعدد وسائل التعلم والتعليم والتقنية الحديثة، ناهيكَ عن مجالس العلم. أو كان بلاؤك بوجود من لا يقيمها بين أهلك، فاجتهد له نصحاً ومتابعة واهتماماً، وابذل له دعوات نصحٍ صادقات بين يدي ربِّك، ألا يُقبضَ تاركاً لها فيلقى الله بهذهِ الجرم العظيم: (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). فأحرى ما يهتم به المسلم – قياماً بالأمانةِ الإلهية العُظمى-؛ الاهتمام بما عَظَّمَهُ الله عز وجل، والقيام به خير قيام .. شأنُ الصلاةِ أعظم وأجلّ من مجرد تفسيراتٍ هشَّةٍ باهتة، كتلك التي يُروِّجها بعضُ أرباب علوم الطاقة، وفحواها عبادةُ البدن؛ باستقطابِ الطاقة المزعومة! .. وشأنُ الصلاةِ أعظم وأجلّ من مجردِ حركاتٍ يقوم بها البدن بقلبٍ مصروفٍ في أوديةِ الدنيا السحيقة .. إنها مِعراجُ الروح وقُرَّةُ عينِ الموحِّدِ المُحبِّ الصادق. ألم يقُل رسولنا صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرةُ عيني في الصلاةِ"[9]. وقال – بأبي هو وأمي- : "أقرَبُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجِدٌ؛ فأكثِروا الدُّعاءَ"[10]. وقال: "اعلم أنك لا تسجدُ للهِ سجدةً، إلا رفع اللهُ لك بها درجةً، و حطَّ عنك بها خطيئةً".[11] إنها مُستراحُ المشتاقين الصادقين، وسَلْوَةُ العابدين العارفين، كما كان يقول نبينا الناصح الأمين: "يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها".[12] شأنُ الصلاةِ أعظم من مجرد نظرٍ قاصر ممن لم يقْدُر لها قدرها، فظَنَّ أن إقامتها لحظوظٍ دنيويةٍ فحسب من عبادةِ البدن وتحصيل خيرات الحياةِ الفانية!، كيف بمن حطَّ من شأنها وقدرها العظيم لتلك الحظوظ البالية؟!. – وجهانِ لعملةٍ واحدة-. كيف لا يَعْظُمُ شأنها ويتسامى قدرها الرفيع، وقد ازدانتِ السمواتُ والعالمُ العلويُّ ليلة الإسراءِ والمعراج بجموع المصلِّين من أنبياء كرامٍ، وملائكةٍ بررة؟!: عن أبي هريرة رضي الله عنهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجْرِ وقريشٌ تسألُنِي عن مسرايَ، فسألتني عن أشياءَ من بيتِ المقدسِ لم أثبتها، فكُرِبتُ كربةً ما كُربتُ مثلهً قط. قال فرفعهُ اللهُ لي أنظرُ إليهِ، ما يسألوني عن شيءٍ إلا أنبأْتهُم بهِ. وقد رأيتنِي في جماعةٍ من الأنبياءِ، فإذا موسى قائمٌ يصلي، فإذا رجلٌ ضربٌ جعْدٌ كأنه من رجالِ شنوءةٍ، وإذا عيسى بن مريم عليهِ السلامُ قائمٌ يصلي، أقربُ الناسِ بهِ شبها عروةُ بن مسعودٍ الثقفيّ، وإذا إبراهيمُ عليهِ السلامُ قائمٌ يصلي، أشبهُ الناسِ بهِ صاحبكُم – يعني نفْسهُ- فحانتِ الصلاةُ فأممتهُم، فلما فرغتُ من الصلاةِ قال قائل: يا محمدُ، هذا مالكُ صاحبُ النارِ فسلّمَ عليهِ، فالتفتُّ إليهِ فبدأَنِي بالسلامِ".[13] إنها الصلاة؛ عبادةُ الخاشعين في أبهى صورها .. وأقدسِ معانيها: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ). واشتغالُ الملأ الأعلى بها في رحلةِ المعراج القُدسية؛ لهو أعظمُ دليلٍ على مكانةِ هذه الشعيرة العظيمة والعبادة الجليلة عند الله تعالى. وأَمُّ نبينا لأولئك الكرام – وهو الكريم- في حشدٍ مهيبٍ عظيمٍ في المكان الأسنى – السموات-؛ دلالةٌ على عظم قدره وعُلُو مكانِهِ صلى الله عليه وسلم عند ربِّه عز وجل. ثم من اشتغل بها فأَمَّ بيوت الله وأحبّ البِقاع إليه في أرضه لإقامتها، ضُمِنَتْ ضيافته. قال صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجدِ أو راحَ، أعدَّ اللهُ لهُ في الجنةِ نُزُلًا كلما غدا أو راحَ".[14] قال الشارح: "والغُدُوُّ هو الوقتُ بين صلاةِ الصُّبحِ إلى شروقِ الشَّمسِ، والرَّواحُ مِن زوال الشَّمسِ إلى اللَّيلِ، والمقصودُ ليس هذينِ الوقتينِ بخصوصهما، وإنَّما المقصودُ المداومةُ على الذَّهابِ إلى المسجدِ، والمعنى: أنَّ مَن اعتاد الذَّهابَ إلى المساجدِ فإنَّ اللهَ تعالى يُعِدُّ له منزلَه مِن الجنَّةِ كلَّما ذهَب إلى المسجد، فيكونُ ذهابُه سببًا في إعدادِ منزلِه في الجنَّةِ، وفي هذا حثٌّ على شهودِ الجماعاتِ، والمواظبةِ على حُضورِ المساجدِ للصَّلواتِ؛ لأنَّه إذا أعَدَّ اللهُ له نُزُلَه في الجنَّةِ بالغُدُوِّ والرَّواحِ؛ فما الظنُّ بما يُعِدُّ له ويتفضَّلُ عليه بالصَّلاةِ في الجماعةِ واحتسابِ أجرِها والإخلاصِ فيها للهِ تعالى؟!". فاستشعرِ يا غادياً أو رائحاً إلى بيوتٍ أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيه اسمُهُ، أنك في منزلٍ كريم، فاحذرن الانشغالَ عن مضيفِك العليِّ الأكرم بشيءٍ من الدنيا الفانية!. أليس لو أن ضَيْفاً أَمَّ دارك ثم انشغل عنك بهاتفه يُحادثُ آخر!، أو انشغل بتتبعِ حساباته في آفاقِ الانترنت ومن فيها، أكنتَ تُعاتبه أو تسخط؟!. – ولله المثل الأعلى – .. إنما هي دقائق أو سويعات فأَرِ الله من نفسك خيراً، واستشعر استغفار ملائكة الربِّ لك ما دمت تنتظرُ الصلاة .. ختاماً؛ بين موقفين: قال القيّم ابن القيِّم: "للْعَبد بَين يَدي الله موقفان: موقف بَين يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة، وموقف بَين يَدَيْهِ يَوْم لِقَائِه، فَمن قَامَ بِحَق الْموقف الأول هوّن عَلَيْهِ الْموقف الآخر، وَمن استهان بِهَذَا الْموقف وَلم يوفّه حقّه شُدّد عَلَيْهِ ذَلِك الْموقف".[15] رزقنا الله تعظيمها وإقامتها كما يحب ويرضى .. [1] تعظيم القرآن الكريم وسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بهما هي الشريعة التي ارتضاها الله سبحانه وختم بها الرسالات. [2] تفسير الطبري. [3] "أطَّتِ السَّماءُ"؛ أي: أصدَرَت صوتًا وصوَّتَت. [4] حديثٌ حسن. [5] صحيح البخاري. [6] إسنادهُ صحيح. [7] صحيح. [8] حسَّنهُ الألباني. [9] صحيح. [10] رواه مسلم. [11] صحيح. [12] صحيح. [13] رواهُ مسلم. [14] رواهُ مسلم. [15] الفوائد.