أسعار الذهب تقفز فوق 2,919 دولاراً    «العقار»: 20,342 إعلاناً مخالفاً بالأماكن العامة    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يصل القاهرة للمشاركة في القمة العربية غير العادية    فيصل بن فهد بن مقرن يطلع على برامج جمعية الملك عبدالعزيز الخيرية بحائل    "الجميح للطاقة والمياه" توقع اتفاقية نقل مياه مشروع خطوط أنابيب نقل المياه المستقل الجبيل - بريدة    مؤشر الأسهم السعودية يغلق منخفضًا 192 نقطة    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد الدويد بالحدود الشمالية ويحفظ مكانته    القمة العربية الطارئة تعتمد خطة مستقبل غزة    هطول أمطار في 6 مناطق.. والمدينة المنورة تسجّل أعلى كمية ب13.2 ملم    أوكرانيا: مستعدون لتوقيع اتفاق المعادن    الاحتلال الإسرائيلي يعتقل 20 فلسطينيًا من الضفة الغربية    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تعزز أعمالها البيئية بانضمام 66 مفتشًا ومفتشة    أمير المنطقة الشرقية يستقبل المهنئين بشهر رمضان    أمانة المدينة تعزز خدماتها الرمضانية لخدمة الأهالي والزوار    طلاب جمعية مكنون يحققون إنجازات مبهرة في مسابقة الملك سلمان لحفظ القرآن الكريم    1.637 تريليون ريال إيرادات ⁧‫أرامكو بنهاية 2024 بتراجع طفيف مقارنةً ب2023    أكبر عذاب تعيشه الأجيال ان يحكمهم الموتى    بالأرقام.. غياب رونالدو أزمة مستمرة في النصر    من الرياض.. جوزيف عون يعلن التزامه باتفاق الطائف وسيادة الدولة    الإيمان الرحماني مقابل الفقهي    موعد مباراة الأهلي والريان في دوري أبطال آسيا للنخبة    في بيان مشترك..السعودية ولبنان تؤكدان أهمية تعزيز العمل العربي وتنسيق المواقف تجاه القضايا المهمة    أبٌ يتنازل عن قاتل ابنه بعد دفنه    وزير الدفاع يبحث مع نائب رئيس الوزراء السلوفاكي علاقات البلدين في المجال الدفاعي    تعليق الدراسة وتحويلها عن بعد في عددٍ من مناطق المملكة    قدموا للسلام على سموه وتهنئته بحلول شهر رمضان.. ولي العهد يستقبل المفتي والأمراء والعلماء والوزراء والمواطنين    في ذهاب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا.. أتلتيكو مدريد لإنهاء عقدة الجار.. وأرسنال لتعويض خيبته المحلية    مهرجان "سماء العلا" يستلهم روح المسافرين في الصحاري    منعطف إجباري    عقوبات ضد الشاحنات الأجنبية المستخدمة في نقل البضائع داخلياً    غزارة الدورة الشهرية.. العلاج (2)    الأمير سعود بن نهار يستقبل المهنئين بشهر رمضان    ليالي الحاده الرمضانية 2 تنطلق بالشراكة مع القطاع الخاص    تعليم الطائف ينشر ثقافة الظواهر الجوية في المجتمع المدرسي والتعليمي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    رئيس المجلس الفخري يعتمد لجنة التنمية بالمجلس الفخري لجمعية المودة    قطاع ومستشفى تنومة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للزواج الصحي"    والدة الزميل محمد مانع في ذمة الله    أمير القصيم يرفع الشكر للقيادة على إعتماد تنفيذ مشروع خط أنابيب نقل المياه المستقل (الجبيل – بريدة)    جمعية «أدبي الطائف» تعقد أول اجتماع لمجلسها الجديد    ياسر جلال ل «عكاظ»: أنا معجب بمقالب شقيقي «رامز»    محمد بن علي زرقان الغامدي.. وجه حي في ذاكرة «عكاظ»    حرس الحدود ينقذ (12) شخصًا بعد جنوح واسطتهم البحرية على منطقة صخرية    محافظ الخرج يشارك رجال الأمن وجبة الإفطار في الميدان    استخبارات الحوثي قمع وابتزاز وتصفية قيادات    «الغذاء والدواء»: 1,450,000 ريال غرامة على مصنع مستحضرات صيدلانية وإحالته للنيابة    خديجة    وزارة الشؤون الإسلامية تنظم مآدب إفطار رمضانية في نيبال ل 12500 صائم    "حديث السّحر" ماشفت ، ماسويت ، ماقلت ، مدري    لهذا لن تكشف الحقائق الخفية    المشي في رمضان حرق للدهون وتصدٍ لأمراض القلب    تأثيرات إيجابية للصيام على الصحة النفسية    أطعمة تكافح الإصابة بمرض السكري    قال «معارض سعودي» قال !    6 مجالات للتبرع ضمن المحسن الصغير    النصر يتعادل سلبيا مع الاستقلال في غياب رونالدو    الدوري أهلاوي    التسامح...    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضيف "الرأي" محمد كزّو
نشر في الرأي يوم 25 - 02 - 2025


حاوره - أريج الشمري
المقدمة
كان القلق الفكري محرك الفلاسفة لقرون طويلة حيث كانت الفلسفة مرتبطة دائماً بالدفاع عن حق الفرد في المجتمع تجاه حرية التفكير والتعبير والاختلاف والسؤال والشك! وتكمن أهمية هذا العلم بما تمنحه للإنسان، من حيث هو إنسان في تقديم براهين عقلانية حول الكون والوجود. لاستيعاب الواقع كاشفة ماهية الأشياء من خلال طرح الاسئلة. ولايُغفل التاريخ أن هذا العلم قاوم جوانب ظلامية في أزمنة سابقة

حيث كانت الحكومات والمذهبيات المنغلقة تعمل على إسكات الفلاسفة بتحريم وتجريم معلميه ومريديه. من خلال أنساق ومفاهيم أحادية ضيقة غايتها حجب التفكير مصادرته ومنعه وتعطيله حتى صار من أهم الهزائم الكبرى التي ابتلي به العقل البشري في كل الحروب الأيدولوجية هي فقدان هيبة الفلسفة والتشكيك بمدى فاعليته وأهميته.

لكن الفلاسفة واجهوا كل الأفكار التقليدية والمعتقدات من خلال بناء أسس تفكير منطقي وتطويره بالتعامل مع المفاهيم المعقدة ومواجهة القيود السياسية والدينية من الحكام وأهل السلطة والدين، فمن الصعب أن تخوض البشرية تجربة التقدم والتطور من دون الفلسفة. وباعتبار أن الفلسفة قاومت كل أشكال التخلف والتبلد من جهة وبما أننا نعيش في عالم متحول ومتغير من جهة أخرى لم يعد الحاجة إلى الفلسفة شيئاً ثانوياً بل بات ضرورة ملحة لمعرفة تغيُّر العالم ومواجهة القضايا الإنسانية في المقام الأول.
وللحديث باستفاضة أكثر عن بداية الفلسفة أهميتها ومراحلها يسعدني أن استضيف اليوم الاستاذ محمد كزُّو في فقرة "ضيف الرأي"

محمد كزو كاتب ومترجم مغربي من مواليد مدينة "ورزازات" أستاذ وباحث في الفكر الإسلامي والفلسفة جامعة السلطان مولاي سليمان كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال باكالوريا في الآداب، ماجستير في تكامل العلوم الإنسانية والإسلامية، باحث دكتوراه في الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية، كما أن له كتابين هما

"عقيدة الحقيقتين" والتي صدرت سنة ٢٠٢١م طرح من خلاله سؤالاً حول الفائدة من قراءة جاليليو جاليليعربياً كما أنه تناول شخصية جاليليو من أربعة محاور جاليليو "الأديب، الجارح، العالم واللاهوتي"
وكتاب آخر بعنوان "رحلة ميدانية في عوالم ديكارت" والتي تم اصدارها سنة ٢٠٢٣ كلا الاصدارين من دار الآن.
كما قدم عدة دراسات منشورة في مجلات محلية وعربية.

١- بداية أستاذي الكريم أود أن اسأل ما أهمية الفلسفة؟ ولماذا هو العلم الوحيد الذي ظل يثير الجدل حتى الآن؟
أولاً وقبل كل شيء أحب أن أشكر صحيفة الرأي على هذا اللقاء الكريم كما أشكر أستاذة أريج الشمري على هذا اللقاء والحوار المهني الشيّق، الذي أتاح لي تسليط الضوء على جوانب مهمة وأتمنى لكم المزيد من التوفيق والنجاح في مسيرتكم الصحفية المميزة.

وعودة للإجابة عن السؤال نقول بأن الفلسفة هي المحرك الفكري والإشكالي للإنسان فرداً ومجتمعاً، وهي السبب الرئيس في طرح قضايا وأسئلة كبرى دامت قرون عديدة منذ بداية ما يسمى بالفلسفة، ومن وجهة نظري ببساطة الفلسفة هي النظر إلى موضوع معيّن من زوايا مختلفة حتى ينكشف ويظهر ويتجلى ويتم فهمه بالشكل المطلوب، وهذه هي أهميتها. أما لماذا هي العلم الوحيد المثير للجدل، فلأنها دائما ما تلامس مواضيع غير مستساغة من لدن الجميع.
٢- هل الفيلسوف يهين ذكاء الناس عندما يتكلم؟
الفيلسوف يحرك فكر الإنسان ولا يهينه، الفيلسوف يحاول إثارة الإشكال وتأزيم الإنسان فكريا، ثم تَرْكُه يبحث عن الحلول المناسبة، لذا يمكن القول بأن الفيلسوف هو الوسيلة التي تساعد الفرد ومن ثم المجتمع على الرقي الفكري ومعرفة الطريق الصحيح لذلك.
٣- كيف يجب أن نفكر؟
لا توجد وصفة للتفكير بقدر ما توجد أساسيات يجب التركيز عليها، وأنا هنا من وجهة نظري، هي مراحل المنهج عند ديكارت تبدو بسيطة ومفيدة للغاية وربما سنأتي على ذكرها والحديث عنها بتفصيل.
٤- هل الحياة بلا معنى لو استطعنا العيش للأبد؟
اولاً الحياة هكذا كما هي يجب تقبّلها، وشكلها هذا عند بعضهم لا يوجد لها معنى أصلا، مغزى كلامي أنه وإن كانت أبدية سنجد كلا النظرتين، وهذا دليل على أن الإنسان لا يألف الاستقرار الفكري ويبحث دائماً عن الشيء ونقيضه كما يقول هيجل. وإذا افترضنا العيش للأبد ربما ستظهر نظريات أخرى توازي هذا الطرح طبعا.

• المرحلة الأولى:
*المدرسة الأيونية ما قبل سقراط..

٥- هل تعد الفلسفة اليونانية هي الشكل الأوحد الذي عرفه تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني، أم هناك أشكال فلسفية سابقة؟ وكيف كان مدى تأثير طاليس وأنسكمندريس القائلين بفكرة "الأكوان المتعددة" والنشوء والارتقاء على أفكار الفلاسفة من بعدهم أمثال سقراط وافلاطون؟
بالطبع لا، الفكر الإنساني فكر تراكمي ولا يمكن أن يُؤسس من فراغ، حيث كانت هناك أشكال فلسفية سابقة على الفكر اليوناني خصوصا الشرقية، ولكن المعضلة هي أن من أرّخ لتاريخ هذا الفكر انحاز بشكل أو بآخر إلى ترسيم هذه الحدود الفكرية وكأنها يونانية محضة، أما تأثير طاليس وأنسكمندريسفي فكرة "الأكوان المتعددة" على باقي الفلاسفة بعد ذلك فكانت واضحة وهي أن العقل الإنساني بدأ يطرح أسئلة عديدة في مواجهة الكسموس بالنسبة له في ظل سيطرة آلهة عديدة على فكره وكانت من إفراز مخيّلته. وبعد ذلك بدأت مراحل هامة منها على وجه الخصوص مرحلة الابتعاد عن الخرافة والأسطورة والاقتراب من العلم.
٦- ما هي طبيعة الواقع أو الجوهر النهائي للكون؟
هذه أفكار بدأت تظهر بقوة مع طاليس وأنكسيماندر نفسهما، وهما من فلاسفة الطبيعة الماديين، عندهم الأرض وكل مادة في هذا الكون جوهرها مادي لا روح فيها، فتعاملا مع أصل المادة عوض البحث في الرؤى الغيبية. فكانت فكرة أن الكون أصله ماء –كما نقل أرسطو عن طاليس- حتى أنه كان إلها مقدسا في فترة معينة من الفلسفة اليونانية؛ وأما أنكسمندريس فكان تلميذه وقال بنظرية أخرى هي نظرية الأضداد ومنها جاء الكون (مثل الصلب والسائل، الحار والبارد… وغيرهما). ثم جاءت الفلسفة الأرسطية في النظرة إلى المحرك الأول الأبدي خاصة في كتابه "الطبيعيات" واستمر الوضع حتى بدء إرهاصات الحداثة في القرنين الخامس عشر السادس عشر للميلاد.
*الفلسفة في الوطن العربي.
٧- عرفت مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحولات مهمة سياسياً وثقافياً واجتماعياَ في حين توقف الفكر الإسلامي عند حد معين إزاء التحولات، باعتبارك باحثاً في الفكر الإسلامي والفلسفة ما هي الآليات والوسائل لأجل تحديث هذا الفكر وجعله أكثر راهنية؟ كيف نستفز العقل العربي؟
الفكر الإنساني عامة فكر تراكمي كما قلت سابقا، بالتالي كانت مرحلة التأسيس مع ظهور الوحي الذي أعطى مجالاً واسعاً في كيفية التعامل مع الإنسان والطبيعة والغيب، بعدها سادت فترة قوية من الكتابة والتأليف -بدون الخوض في المسائل السياسية العويصة- استمرت حتى بعد القرن الثاني عشر للميلاد، ثم بدأ التراجع بالاعتماد على الشروحات والحواشي وحواشي الحواشي، مع استثناءات قليلة جدا بين الفينة والأخرى من مفكرين إسلاميين وعرب برزوا بنظريات جديدة، واستمر الحال حتى الصدمة التي شهدها العالم العربي في القرن التاسع عشر للميلاد وإلى الآن لم يستطع تجاوز الأمر، لأن الغرب سبق ماديا وحضاريا بعقود كثيرة. يمكن هنا أن أشير إلى مشروع محمد عابد الجابري في تشريح العقل العربي وإظهار مكوناته السياسية والاقتصادية والأخلاقية. العقل العربي من وجهة نظري يستوجب عودته للذات الروحية حتى يتمكن من استيعاب المشروع الإنساني ككل، آنذاك يمكن الحديث عن راهنية تسعى لحل إنساني كوني للأزمات التي يعيشها الكون.
٨- إذا استقرأنا التاريخ العربي مرة أخرى ماهي الفترات التي كانت فيها قفزة وصحوة فكرية من وجهة نظرك كباحث ومفكر؟
ربما أجبت عن جزء من هذا السؤال قبل قليل، ولكن يمكن أن أضيف هنا -بعد مرحلة التأسيس الأولى- فترة ابن خلدون طبعاً في القرن الرابع عشر للميلاد، لأنه عالم اجتماعي أتى بطفرة فكرية هامة في فلسفة التاريخ، وكذلك في تطور العمران، ثم الأندلسية القوية في المجالات كلها تقريبا، ثم وصولا إلىالفترة الحديثة تقريبا منذ أواسط القرن التاسع عشر للميلاد إلى اليوم.
٩- يقول بلزاك "إن الطبيعة لم تكن قد كملت تماماً قبل ولادة أرسطو، فلما ولد وجدت فيه تمامها البالغ وكمال وجودها، وعادت لا تستطيع أن تصرف النظر عنه، فهو غاية قواها وحد العقل البشري". ويقول " أن مذهب أرسطو هو الحقيقة المطلقة، وذلك لبلوغ عقله أقصى حدود العقل البشري".
ما هو تأثير فلسفة أرسطو على العصور الوسطى وعصر النهضة؟ وما هو الفرق بين منهج أرسطو الفلسفي ومنهج أفلاطون، وكيف أثر هذا الاختلاف على الفلسفة فيما بعد؟
هذا صحيح، بمعنى الفلسفة لم تكن واضحة قبل أرسطو، وعرفت معه المجالات كلها نضجا معرفيا هاما، لأنه الأول الذي تحدث وأنتج منهجا م فكرياً واضحاً وهاماً في ذاك الزمان، وهذا واضح جداً في فلسفة أرسطو الذي تحدث عن المواضيع جميعها، من السياسة إلى الطبيعة إلى المرأة إلى الفَلك إلى الفيزياء وصولا إلى الموسيقى، بما يمكننا القول إن أرسطو أرسى أساسات الفلسفة.
أما فلسفة أفلاطون فكانت حوارات لأستاذه سقراط، يشرح من خلالها بعض الرؤى والنظريات دون الوصول إلى تأسيس منهج واضح، فبقي في هذه الدائرة التي تبحث عن المثالية في الأفكار، والتي لم تَتَحقّق على الإطلاق.
أما التأثير بعد ذلك فواضح جداً، أي أن الفلسفة التي كانت مبنية على أسس متينة عمّرت طويلاً ما يقارب العشرين قرناً كاملاً وهي فلسفة أرسطو، صحيح أن الكنيسة أسهمت في قوة أرسطو نصف المدة مع تنصيره من قِبل طوما الأكويني، ولكن في الحقيقة كان المنهج الفكري المنطقي الأرسطي سائداً وبقوة، أما أفلاطون فكان يُذكر بالكاد في مشاريع فلسفية خاصة جداً من طرف هذا الفيلسوف أو ذاك.
١٠- ألا ترى أن الصعوبة والتعقيد اللذان تتميز به كتب الفلسفة كانا سبب كافياً لخلق حاجز الاستغناء عنها بدل الإقبال على/الفلسفة مقارنة ببقية العلوم؟ ولماذا لا يتصرف الفلاسفة بجدية تجاه هذا الأمر من خلال التبسيط والتقريب؟
ليست الفلسفة معقدة، ولكن الفهم الإنساني يختلف، والاستعداد الفكري لمواجهة قارة النَّظر إن صح التعبير غير موجود لدى العامة، وهذا ما يجعل الفلسفة تبدو صعبة المنال، التبسيط والتقريب حاضر طبعا، ولكن لا يمكن أن يتجاوز حدوداً معينة وإلا كان شيئاً آخر غير الفكر، بالتالي يجب توفّر الفرد أولاًعلى العزيمة القوية لخوض غمار التفكير الفلسفي، آنذاك ستبدو له الأمور سهلة شيئا فشيئا.
– رحلة ميدانية في عوالم ديكارت.



١١- كيف يسهم كتاب "رحلة ميدانية في عوالم ديكارت" في إعادة قراءة فلسفة ديكارت من منظور جديد؟
يثير سؤالك هذا فكرة هامة، بطرح السؤال التالي: لماذا لم تنجح تبيِئة رونيه ديكارت في العالَم العربي؟ ما تطرّقت بسببه لمحور كامل في كتابي بعنوان: رونيه ديكارت بعيون عربيّة؛ أدرجتُ فيه أربعة نماذج كتبتْ ودرستْ رونيه ديكارت بشكل مستفيض، وهم من المدرسة المصريّة الرّائدة في هذا الباب. وإن كانت بعض المقالات والكتب المتأخّرة، من هنا وهناك، في العالَم العربي خصوصًا من الشّمال الإفريقيّ أيضًا، إلّا أنّها لم تصل مستوى التّخصّص المصريّ الفريد والمبكِّر.
قد يقول قائل: إن رونيه ديكارت قد قُتل بحثا؟ لذا سيكون الجواب من خلال العنوان الفرعي بأن البحث الذي انصبّ حول ديكارت كان من سياق الواقع الذي تطلّبته المراحل التي عاشها العالم العربي الإسلامي، بعدما لامس وتعامل مع الحداثة، أو بتعبير أصح، مع المنجز الغربي الذي سطع نجمه في المجلات كلها، وانصهر في الحياة العربية اعتمادا على نتائج الحداثة، وليس على جذورها.
لذا سيكون التركيب بعد التحليل، من الخطوات المهمة في التعامل مع المتن الديكارتي في عموميته، وهي الخطوة الأساسية نفسها التي اعتمدتها الحداثة، وخاصة مع رائدها الفلسفي رونيه ديكارت عينه. إن هذا الأخير، كان وما يزال، رائدا في التعبير عن الصياغة العِلمية الجديدة للأسس الحداثية، بالتحوّل من الخارج الطبيعي إلى الداخل الذاتي اعتمادا على ميتافيزيقا ضامنة للمعرفة، واعتمادا أيضا على مشروع متكامل سطّر ملامحه الرئيسية منذ مدرسة "لافليش" الابتدائية، عندما ضجر من التعليم العتيق للفكر اليوناني الممزوج بالنكهة المسيحية المقدَّسة، ولم يستطع أن يبوح عما في داخله حتى أكمل دراسته، وأخذ شهادته.

١٢- في المحور الخامس تحت عنوان "كتاب تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى" وجدتني محاصرة أمام عدة تساؤلات أهمها:
أيُعد الإنسان جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة/المادة ، أم هو جزء يتجزأ منها له استقلال نسبي عنها؟
وهل يتميز الإنسان بأبعاد أخرى لا تخضع لعالم الطبيعة / المادة الواحدية في مقابل الثنائية)، أم أن وجوده طبيعي / مادي محض ؟
أيعتبر الإنسان سابقًا للطبيعة المادة، متجاوزاً لها، أم أنها سابقة عليه متجاوزة له؟
هذا الكتاب بالضبط حلقة هامة جدا في الفكر الديكارتي حيث أَلْبَس العِلم لبوسا فلسفيا، وهو ما كانت ترفضه الكنيسة، فجاء في هذا الكتاب بأفكار علمية يهدم فيها أفكار أرسطو بطريقة ميتافيزيقية وهنا تكمن قوة الكتاب؛ إذ وضع أساسات صلبة بمثابة الأرض المتينة التي انطلق منها مجموعة كبيرة من الفلاسفة، آنذاك، وخَبِروا اتجاهات الحياة كلها، مما لم يسعف ديكارت التطرق له، إما لضيق الوقت أو عدم استيفاء المواضيع بالدراسة الكاملة، بل حتى الخوف من الكنيسة أحيانًا كثيرة، حيث نجده يقول: «مضت الآن ثلاثة أعوام منذ انتهيت من الرّسالة (يقصد كِتابه العالَم) التي تحتوي على كل هذه الأشياء، وأخذت في مراجعتها، كي أضعها بين يدي طابع، عندما علمت أن أشخاصًا أُجِلّهم (يقصد رجال الكنيسة) ولهم من السُّلطة على أعمالي ما لا يقلّ عما لعقلي من السُّلطة على أفكاري، لم يُقِرّوا رأيًا في عِلم الطبيعة، أذاعه البعض (يقصد غاليليو جاليلي) قبل الآن بقليل (يقصد سنة 1633م)، ولا أريد أن أقول أنني كنت على هذا الرأي، ولكنّني أريد أن أقول أنني لم ألاحظ فيه قبل استنكارهم، ما أستطيع أن أتوهّمه مُضِرًّا بالدّين أو بالدولة» هذا اقتباس من كتابه التأملات، وهو كِتاب معتمد، إلى الآن، في أغلب جامعات العالَم بما يشمله من تفكير فلسفي جديد قام على أسس متينة، فكان هاجس ديكارت التأسيس الفلسفي للعِلم الناشئ آنذاك، وليس دفاعًا عن اللاهوت الكلاسيكي كما ظهر للجميع، إلّا أن مهادنة الكنيسة أصبح ضروريًّا، فأهداها هذا الكِتاب، وأوصى رجالها بالحفاظ عليه ونشره ضدّ الكافرين، وإن ضمّ أفكارًا منافية، في حقيقة الأمر، لِما تتبنّاه من فكر أرسطي شارح للكتاب المقدس، ولا يحقّ لأي شخص الخروج عن هذا الشرح والتفسير؛ فهو سمّ في دسمٍ، إذ ضرب ضربته القوية عالية الذكاء، وسار في دربه آمنًا وقتًا كافيًا من الزمن. أما الأسئلة الفرعية التي طرحتيها فكانت سابقا ونوقشت فلسفيا وهي الأسئلة الكبرى لها، فهي تحصيل حاصل وتمويها من ديكارت حتى يصل لهدفه.
١٣- جاءت محاولات مشابهة لمذهب ديكارت في عالمنا العربي إلا أنه تم محاربتها إما بالتكفير أو الاغتيال أو النفي ولايزال هذا منهجنا حتى الآن، مع كل من يحاول أن ينتهج مبدأ الشك. فكر فرج فوده بشكل مختلف وتم اغتياله، وحاول كذلك نصر حامد أبو زيد وتم نفيه، طه حسين واجه صدامات عنيفة مع الفكر الأصولي من جهة والقوميين العروبيين من جهة أخرى. السؤال هنا أليس لهذه الأحداث سبباً في تراجع وتأخر الحركة الفكرية في العالم العربي؟
أولا لدي اعتراض عن قولك "ولايزال هذا منهجنا حتى الآن"، حيث اختلفت الأمور الفكرية حاليا، ولم يعد ذلك الزخم الاشتراكي الشيوعي طاغيا كما في النصف الأول من القرن العشرين، والذي أعطى كما تفضلتِ نماذج صادرت عملية التفكير عربيا، أما عن سؤالك ثانيا عن المفكرين الذين تم التعامل بهذا الشكل، كانت في نظري موجة ليس إلا، لم تستوعب حرية التفكير كما يجب النظر إليها، فكان العقل الجمعي هو الحاكم للأسف، وغصنا في الهوامش عوض المركز، ما ضاع معه وقت طويل كنا لنستفيد منه في مسار التقدم الإنساني. بيد أن الهم الأكبر، يتمثل في كيفية الاستفادة من المنتوج الغربي، أوليست المنطلقات غير المنطلقات؟ ألم يبدأ ديكارت من سياق آخر مختلف تماما؟ ثم ماذا عن هذه الأفكار التي جرحت الإنسان الغربي نفسه قبل الإنسان العربي؟ ألا يجب أن نأخذ مسافة الأمان الكافية من هذا المُعطى الجاهز؟ ألم يستعمل ديكارت الخديعة في مُنجَزِه العِلمي؟ وبالتالي هل يمكن عدُّه مكرا غير مستساغ ومنبوذ؟ ثم السؤال الجوهري: ألم يكن العِلم هو المحرك الرئيسي للحداثة؟
تؤدي بنا هذه الأسئلة وغيرها، إلى عالمية الخطاب الحداثي، ومدى جدواه في نقل الإنسانية خارج المجال الغربي من مستوى إلى آخر أكثر راحة، بل يمكن أن ندقق العبارة كما يلي بتعبير آخر: هل تستفيد الإنسانية الغربية خارج أوروبا من المنجز الحداثي نفسه؟ أقصد هنا شرق آسيا والأمريكيتين، ناهيك عن العالَم العربي ذي الخصوصيات العقدية والفكرية والدينية والاجتماعية وغيرها. وحول الموضوع المركزي الذي شغل العالَم بأكمله طيلة الخمسة قرون الماضية، إنه "الحداثة".
*مدرسة فرانكفورت
١٤- بلغ العلم ذروته القصوى في بداية القرن العشرين مع ظهور النسبية وفيزياء الكم وبنفس الوقت أيضاً ظهرت نظريات ومذاهب فلسفية حيث شهدت الفلسفة تطور عدد من المدارس الفلسفية الجديدة كالوجودية ومابعد البنيوية والفلسفة التحليلية إلى جانب طروحات مدرسة فرانكفورت وصولاً إلى فلسفة "أنطونيو جرامشي" معنى هذا أن تطور العلم انعكس ايجاباً وليس سلباً على الفلسفة. رأيك على من يدعي أن الفلسفة توقفت عند نقطة الاجترار العقيم لقضايا عتيقة وعدم قدرتها على مجاراة عصر التطور العلمي والتكنولوجي؟
طبعا لا أتفق مع هذا الطرح، وإلا كيف سنقصي الفلسفة بهذه البساطة من التفكير اليومي للإنسان؟ فما بالك الفيلسوف، فلولا الفلسفة لما تطور العلم، ولولا العلم لما تطورت الفلسفة، العلاقة هنا جدلية تكاملية، وأما من يقول باجترار الفلسفة القضايا القديمة فهذا يجانب الصواب، لأن الفلسفة أصلا تُعيد طرح الأسئلة الكبرى في كل زمان لتبحث عن أسئلة لها بروح العصر وسقفه المعرفي.



١٥- تنبأت مدرسة فرانكفورت بالتحديات التي نواجهها اليوم من استهلاكية مفرطة وتلاعب وسائل الإعلام، هل يمكن للمجتمعات الحديثة التخلص من ظاهرة التشيؤ بشكل كامل، في ظل التقدم الاقتصادي؟ وهل يمكن إيجاد "بدائل" للهيمنة الثقافية؟
تميّزت مدرسة فرانكفورت بالتكامل في نسقها البحثي؛ وحاول أعضاؤها التكامل في الإنتاج الفكري كل من منظور تخصصه؛ حيث انتقدوا نماذج التفكير المؤسساتية بقوة. وسَعَوا لمعالجة مشكلات جديدة من خلال نقد مشروع الحداثة الغربي وإعادة إحيائه باعتماد أسس راهنية جديدة. فهذه النظرية ليست معنيّةً فقط بالأهداف التي تفرضها طرق الحياة الحالية علينا بالفعل، بل كذلك بالبشر. يقول إريك فروم: "لا يكمن الخطر الذي يتهدد الدين في العِلم، بل في التصرفات السائدة في الحياة اليومية، فهنا كفَّ الإنسان عن البحث داخل نفسه عن الغرض الأسمى من الحياة، وجعل نفسه أداة تخدم الآلة الاقتصادية التي صنعتها يداه. فهو مَعنِيّ بالكفاءة والنجاح أكثر من عنايته بسعادته ونماء روحه. ولعل أخطر توجيه يهدد الموقف الديني على الأخص هو ما أسميتُه التوجيه السوقي للإنسان". وهذه رؤية قوية من داخل المجتمع الغربي نفسه الذي وصل لدرجة القلق والحيرة رغم المنجزات المادية العديدة. فكانت مسألة التشيؤ والاغتراب نظرة جديدة حاولت من خلالها مدرسة فرانكفورت البحث بقوة عن الأسباب التي جعلت الإنسان غير إنسان في قيمه وأخلاقه وروحه. فانتقدت القيم الغربية الاستهلاكية، التي استعبدت الإنسان وحولته إلى آلة إنتاج، فاصبح من الضروري عودة المُفارق حلا لأزمات العالَم الكونية.
عقيدة الحقيقتين
١٦- تناولت في كتابك "عقيدة الحقيقتين" أربعة محاور في شخصية جاليليو الأديب، الجارح والعالم واللاهوتي، استحضرت حياة هذا العالم إنسانيا وفكريا وتكلمت عن الدور الذي لعبته الجاليلية في مسار التأسيس النظري
الذي أفضى لمشروع الحداثة الغربية، وسؤالي هنا
لماذا (جاليليو) تحديداً، لماذا ليس كانط أو جان فيولاك أو ابن رشد؟ وما جدوى قراءة جاليليو اليوم؟
أولا لماذا جاليليوا وليس غيره مما ذكرتِ، لأن فترة جاليليو كانت تأسيسا من ناحية علمية للحداثة الغربية التي بدأت مع كوبرنيكوس قبله ثم فيما بعد ديكارت معاصرُه، وثانيا إنّ جدوى قراءة جاليليو جاليلي من جديد، تكمن في استلهام التجربة الثورية الغربية في عالَمنا العربي التي تغِيب عنا بشكلِها المُقنَّن والمدروس، إذ غالباً ما نستحضر جاليليو كمعلومات لا كضربة موجعة أيقظت الذهن البشري عامة.
أيضاً تكمن جدوى قراءته في فَهْم الجذور العِلميّة للحداثة الغربيّة، والتي أفضت إلى حتمية ما يسمى ب"العَلمانيّة" بما هي فصل الدين عن الدولة، مما يعني أنها لم تكن أبداً اختياراً، بل ضرورة مُلحَّة فرضت نفسها بقوة المُتغيِّر العِلمي الحداثي الغربي.
ثم تكمن جدوى القراءة كذلك، في اكتشاف أقنعة أخرى للعالِم الفيزيائي جاليليو غير المتعارف عليها، بما سنشهد أوجهاً جديدة لهذا الرَّجُل، في شخصيته، تستحق الوقوف عندها.
وعليه تكون رسالته إلى الأميرة الدّوقة كريستينا طريقًا سلكه جاليليو للخوض في الكتاب المقدّس وتأويلاته، رغمًا عنه من الأعداء لتبطيئ مساره الممتاز في العِلم والفيزياء، بمغزى تأويل النص الديني وعدم الخروج عن الطرح الأرسطي الذي تتبنّاه الكنيسة؛ إلا أنّ كياسة جاليليو وقوة شخصيته في الجدال والمشاكسة دفعتاه للرد وبالأسلوب نفسه متقمِّصًا دور اللاهوتي المشبع بالأفكار الكنسية ولكن بمنظوره هو وطريقته، فكان أن ناقش عِلميًّا وإيمانيًّا إصحاحين مِن الكتاب المقدّس ليخلص إلى كون الحقيقة واحدة.
١٧- ما المقصود بمفهوم "عقيدة الحقيقتين"؟ وكيف يربط الكتاب بين عقيدة الحقيقتين والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية؟
عقيدة الحقيقتين تعني أن الحقيقة واحدة وليست متعارضة، فواجب الإيمان يقول إنّ الآيات تنزيل من عنده تعالى، وواجب العِلم يقول إنّ الطبيعة يجب أن تساير الغيب لارتباطهما الشديد، فالكتاب المقدّس حقيقة ومستجدات الطبيعة حقيقة ولا يمكن للحقيقتين أن تتعارضا؛ فكانت منه هاته الرسالة الخالدة إلى الأميرة هدفها الأول والأخير شرح توافق النص الديني مع الاكتشافات العِلمية الحديثة، ومِن بَيْن ثنايا الأسطر التي كَتَبَ تراءت لنا نواحي أخرى من شخصيته القوية المؤمنة مطلقًا بما اكتشفه وأعلنه.
أما في ربط الكتاب بين الفلسفة الغربية والإسلامية فهو كما قلتُ سابقا هي تجربة جاليلية تستحق النظر والتأمل في الخروج من حَرْفية النص وتأويله، وإعطاء نَفَس جديد من للربط بين السماء والأرض، بين الدنيوي والغيبي.
وكيف ينظر الكتاب إلى دور العقل في الوصول إلى الحقيقة، وهل يمكن للعقل أن يستوعب كلا الحقيقتين؟
العقل هبة من الله تعالى، وهو كما قال جاليلو نفسه: "لا يمكن أن يهبنا الله تعالى مختلف الحواس ويمنعنا بعد ذلك من استعمالها". فالعقل إذن هو المهماز الذي بواسطته نبحث عن المعرفة والحقيقة، وهو يستوعب إلى حد ما كلتا الحقيقتين لأنهما من أصل واحد، أصل خلق الإنسان وأصل خلق الطبيعة؛ بالتالي سيكون اتحاد الأصل باعثا على الاستيعاب، وهذا يعتمد كذلك على تطور العصور وتراكم المعرفة.
١٨- ما الذي بقي من الفلسفة؟
تبقى منها الفلسفة كاملة، لأنها مازالت تشتغل بأدوات التأمل والحجاج وطرح الأسئلة الكبرى، لإعادة التفكير من جديد في القضايا الجوهرية بلبوس كل عصر وروحه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.