دائما ما يصور لنا أنصار الفلسفة نتاج الفلاسفة وكأنه نتاج لأناس استثنائيين وعلماء بارعين، تغلبوا على الخرافات الدينية في عصرهم، وناضلوا في سبيل العقل والعقلانية، وبنوا لهم عالما جديدا، عماده العقل، فالفلاسفة هنا يمثلون قوى التنوير في مقابل قوى الظلام، التي يمثلها رجال الكنيسة. هذه الصورة المختزلة والسطحية لتاريخ الفلسفة والفلاسفة، يلعب فيها الخيال دورا مضللا، يعجز كثير من الناس إثره عن فهم حقيقة الفلسفة التاريخية. تصور الفلسفة في أطروحات أنصارها اليوم وكأنها حالة انفصال جذرية مع الماضي، مما يجعلها تأخذ طابعا معاديا للدين، إذ تسعى لتنحيته عن كل مناحي الحياة، فالعلاقة تبدو صراعية وجدلية بين الدين والفلسفة لديهم، حيث نجح أنصار الفلسفة في إخفاء الجذور الدينية للفلسفة بكل مهارة، وجعلوا منها نسقا مترابطا منزوعا من مكونه الديني، بعد أن تغاضوا عن الصلة العميقة والوثيقة بين الفلسفة والمسيحية، فكثير من فلسفات مفكري القرون الماضية مدينة بوجودها للديانة المسيحية، حيث إن فلسفة ديكارت وكانط وبيكون ليست في حقيقتها إلا محاولات للإجابة عن أسئلة مسيحية قديمة بأساليب معاصرة لجيلهم، ولا يمكن فهم منهج ديكارت، أو عقل كانط المحض، أو ظواهرية هيجل بمعزل عن الديانة المسيحية، إذ برزت الأسئلة التاريخية للفلسفة من خلال أزمة لاهوتية داخل المسيحية. كما بزغت الأسئلة عن طبيعة الوجود التي ناقشوها نتيجة ذلك. تطور التاريخ يفتح المجال ببساطة لأفكار وأساليب حياة جديدة، تتطلب ظهور أسئلة دينية جديدة، لذلك ظهرت الفلسفة في التراث الغربي بصفتها حاجة دينية للإجابة عن أسئلة دينية، ورغبة في صناعة منهجيات، لفهم تشريعات النصوص المقدسة التي يؤمنون بها. لذلك، كان الدافع الديني للفلاسفة يقف وراء نتاجهم الفلسفي، فهم أشخاص متدينون سعوا للحفاظ على معتقداتهم الدينية، وفهم نصوصهم المقدسة. لم يقدم الفلاسفة الغربيون أنفسهم بصفة المؤسسين لعصر جديد أو محدثي ما هو جديد بالكلية، بل فهموا أدوارهم الدينية كأفراد يرغبون في إعادة أمجاد ديانة تقليدية يؤمنون بها. ومن الخطأ تصوير الفلسفة الأوروبية مثلا بمعزل عن الديانة المسيحية، أو تقديمها بصفتها أفكارا ذات طابع إنساني مشترك، وبالتالي طرحها في مناهج دراسية أو تقديمها في مؤتمرات فكرية، بصفتها أسلوبا للتفكير الناقد أو التسامح الديني. كانت قضية «الخلاص» مشكلة مقلقة في الديانة المسيحية، ونتجت عنها جملة من الأزمات الروحية والصراعات داخل الكنيسة، وأفكار متعمقة في السلوك الأخلاقي للبشر للخلاص من ذنب الخطيئة الأولى، لذلك ظهرت «صكوك الغفران» كتجلٍ لفساد الكنيسة. ونتيجة هذا، ظهرت حركات مضادة، تحمل أفكارا تعتمد على حرفية النص المقدس، لدحض فكرة «صكوك الغفران»، بصفتها وسيلة للخلاص البشري. منهج الشك ل«ديكارت» -على سبيل المثال- كان دافعه التدين، والرغبة في فهم الإنجيل ككتاب مقدس، ومصدر للمعرفة، ومرجعية للخلاص. وفي كتابه «ما هي الإيديولوجيا»، يقول الباحث عبدالله إبراهيم: «الموجه الديني من أقوى المؤثرات في فلسفة ديكارت، إن لم نقل إن مضمونها خاضع لمرجعية دينية لاهوتية». حديث عبدالله إبراهيم عن ديكارت، «أبو الفلسفة الحديثة» كما يلقب، يمكن تطبيقه على بقية الفلاسفة في التراث الغربي. ولو أردنا تقديم المقابل العربي لكلمة «فلسفة» للعربية، التي تعني «محبة الحكمة»، فإنه لزام علينا أن نفسر كلمة «الحكمة» من منظور إسلامي، كونها ذكرت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، ومنها قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}، وهي تأتي لعدة معان، حيث قال «الضحاك» في تفسير معنى «الحكمة» هنا: «هي القرآن والفهم فيه»، وقال مجاهد: «هي القرآن والعلم والفقه». وإجمالا، يدور معنى «الحكمة» في فهم الدين، والفقه بأسرار التشريع فيه من خلال المعرفة بالنص القرآني، وهذا ما يجعل النشاط الفقهي عند العرب يمثل المقابل المعرفي للنشاط الفلسفي عند اليونانيين والأوروبيين. وشخصيات يونانية مثل أفلاطون وأرسطو، وأوروبية كديكارت وكانط، ليسوا في حقيقة الأمر سوى شخصيات متدينة، ونشاطهم الفلسفي ليس إلا محاولات للتفقه في الديانات التي يؤمنون بها. لذلك، لو سلطنا الضوء على كتاب شهير في التراث العربي، ألا وهو «تهافت الفلاسفة» ل«الغزالي»، لوجدناه يناقش ويحلل، ويحاول أن يدحض معتقدات دينية شاعت في العصر اليوناني، وعند الفلاسفة اليونانيين، وتحديدا عند الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو. الفلاسفة ببساطة هم فقهاء أوروبا واليونان، والفلسفة هي نشاطهم الفقهي التي من خلالها حاولوا فهم كتبهم المقدسة وتأويلها. وهنا نريد أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: لماذا أصبحت الفلسفة في حكم الميت دماغيا في العصر الحديث، ولم تنجح أغلب محاولات أنصارها في إحيائها وبث الروح فيها من جديد؟. إذا قلنا إن الفلسفة مرتبطة بالنصوص المقدسة، والمعتقدات الدينية التي آمنت بها الشعوب اليونانية والغربية، ففي المجتمعات الغربية الرأسمالية اليوم لم تعد النصوص المقدسة والأديان هي الموجه الحقيقي للشعوب بقدر ما توجهها وتشكلها مصالح السوق، والثقافة الاستهلاكية للأسواق، لذلك تعيش الفلسفة وأغلب الأديان أزمة حقيقية في العالم الغربي بسبب تهميش السوق الاستهلاكي لها في عصر الرأسمالية العالمية المهيمنة. وعلى الرغم أن أنصار الفلسفة حاولوا اليوم تقديم النشاط الفلسفي بمعزل عن مكونه الديني، ومحاولة ربطه بالتفكير الناقد والتسامح الديني، فإن الفلسفة ظلت تعيش على هامش المجتمع، لأنها فشلت عمليا في لعبة العرض والطلب.