بقلم | الدكتور صالح الحمادي ما أشبه الليلة بالبارحة !، وما أجمل أبن خلدون وهو يقدم لنا نظريته الشهيرة” التاريخ يعيد نفسه”! في مقدمته الشهيرة، وما وجه الشبه بين أميري عسير في حالتين وهذه النظرية ؟… .. قبل سبع وعشرين عاما كنت مع المواكبين لزيارة ا لأمير خالد الفيصل لمحافظات شرق منطقة عسير في ليال شتاء قارس.
أمير منطقة عسير المثقف المتقد حماسا وعطاءً تركي بن طلال بن عبدالعزيز أعاد المشهد ذاته عبر نظرية أبن خلدون ، وعبر نظرية الانصهار، ومن ذات المكان وفي نفس المخيم الذي اختاره الأمير خالد الفيصل قبل أكثر من ربع قرن .
وفي هذه الجولة للأمير تركي كان الإنسان هو محور الانصهار الوطني ، وكانت اللقاءات مثيرة للدهشة ، حيث سعى الأمير تركي لت رسيخ نظرية الانصهار الوطني التي بدأها مؤسس هذا الكيان العظيم الملك عبد العزيز طيب الله ثراه عبر “الكتاب والبيع”، ( وثق أبعاد هذه النظرية البنائية العالم الأمريكي كارل ديوتش المتخصص في السياسة الدولية ) بمهارة فائقة .
من أول لحظة تشرفنا بالجلوس مع سموه في الخيمة التي أقيمت بعرين قحطان ، وبحضور عدد من المشايخ والأعيان رسم الأمير تركي استراتيجية عمل واضحة المعالم بين فيها رغبته في الأداء العملي ، وتفعيل ورش اللقاءات المتنوعة ، واعتذاره الشديد عن جميع الدعوات ، اتضحت معالم الاستراتيجية التي رسمها من خلال حرصه على الالتقاء بم شايخ القبائل والأعيان والمواطنين ، و ال استم ا ع إلى متطلباتهم واحتياجاتهم ، والوقوف على احتياجات المحافظ ات من خلال الاجتماع مع المسؤولين من مديري الإدارات الحكومية ، وأعضاء المجلسين المحلي والبلدي، وتعزيز عطاءات رواد و رائدات الأعمال، و مبادرات الشباب .
في أول محطة ميدانية كان تركيز الأمير تركي منصب ا على مسح الصورة السلبية وخاصة في مركز الأمواه الذي تأسس 1376ه ، ومنحهم الثقة لمواكبة الحراك البنائي المستقبلي ( سميت «الأمواه» بهذا الاسم لبئر قديمة كانت المصدر الوحيد لتأمين سكان البادية بمياه الشرب على وادي أدد جد مذحج ) ، حيث ا ختار الأمير تركي الحوار المباشر مع طلاب متوسط وثانوية المحافظ ة لأنهم عدة ا لمستقبل ، وقلب أثناء الحوار المعادلة عندما ا نتقل من موقعه كضيف ليذهب للجلوس بين الطلاب ، وطلب من بعضهم إدارة الحوار من خلال الثقة التي منحهم إياها وسط تصفيق واعجاب الجميع، ثم استعان بخبرات شباب عسير المميزة ” عادل أل عمر وعبدالله الوادعي ” ليعلن عن انشاء فرق من شباب المحافظة في المناشط الشبابية والتطوعية لبداية تغيير الفكر سلبي إلى إيجابي، والاستفادة من هذه الطاقات ، ووعد بخطوات متسارعة وأفكار لاحقة لتحويل مركز الأمواه إلى مصنع للرجال.
نفس الاستراتيجية نفذها الأمير تركي خلال زيارته لمحافظة طريب ، ثم محافظة تثليث ، وأخيرا محافظة بيشة ، وحرص على زيارة “م ر ك ز النمو بالقيرة ” الذي يترجم فلسفة نظرية “ الانصهار “ من عهد المؤسس لهذا الكيان الكبير وسار عليها أبناؤه البررة الملوك والأمراء .
الأمير تركي لم ينس الزيارات الإنسانية ، ولم ينس الواجبات والمسئوليات ، وكسر الحواجز بينه وبين المواطنين ” كلمته للمواطنين في تثليث شاهد عصر عندما قال لهم لن اغادر حتى أقابلكم جميعا” استمع للمشايخ والأعيان والمسئولين , و التقى بالرجال والنساء ، ، وتحاور مع الصغير قبل الكبير، وتنقل في المواقع وفق خطة اتسمت بالعمل، والجدية رافضا اهدار الوقت في الولائم والمظاهر المبعثرة للمال والوقت، رفض حفلات البهرجة، واللوحات الترحيبية، و كان تركيزه على تروس عجلة ورشة العمل الميداني الحقيقي فقط .
الذي يهمني شخصيا ومن خلال هذه الزيارة التي تشرفت بقراءة ما بين سطورها تلك الشخصية الثقافية العالية للأمير تركي ، وحرصه على ال مسامرات المفيدة ، وكان من ضمنه ا توقفه عند سرد تاريخي قدمه الشيخ ملوح أبو جلبه حيث قام الأمير تركي فور سماعه للسرد التاريخي بالاتصال بنفسه على رموز تاريخية للتأكد من صحة المعلومة ( حاولت المداخلة ولم انجح في إيصال الفكرة مستشهدا بكتاب تركي الماضي وكتاب تاريخ الملك سعود الوثيقة والحقيقة لمؤلفه الدكتور سلمان بن سعود بن عبدالعزيز )
فالشيخ ملوح أبو جلبة كان يتحدث بكلام يغلب عليه الصيغة التعبير ية الشعبية دون توثيق بحثي أكاديمي ، ومعلوماته صحيحة 100% ومغلوطة توثيقيا حيث ذكر أن الأحداث كانت 1351 ه وقال توقفت الحروب بعد توحيد البلاد، وهذا غير صحيح حيث كانت احداث اليمن عام 1352 ه أي بعد توحيد المملكة وانتهت باتفاقية الطائف 1353ه، وقد بين الدكتور فهد السماري وهو أحد الرود في رده على استفسار الأمير أن حملة الملك فيصل كانت 1353 ه وهذه معلومة صحيحة ولكنها مبنية على سؤال الأمير تركي عن فيصل بن عبد العزيز وليس عن حملة سعود بن عبد العزيز كما ورد على لسان أبو جلبه وهنا نقطة خلاف تحتاج للتوضيح لاحقا.
من الصور الجميلة التي خرجت بها في هذه الجولة ودون أن يشعر بها أغلب المرافقين للأمير في جولته حرص سموه على السير في الناس بالإصلاح وهو أهم الأعمال الجليلة ف قد حاول في أول قضية عتق رقبة وتعذر ذلك ، ونجحت مساعيه في عتق رقبتين من حد السيف …. يقول صفوة البشر محمد صلى الله عليه وسلم “لئن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين” الناس بالناس مادام الحياءُ بهمُ والسعد لا شك تارات وهباتُ وأفضل الناس ما بين الورى رجلُ تُقضى على يدهِ للناس حاجاتُ
الشيء السلبي الذي لمسته وعشته بنفس ي هو ذلك العمل الشاق المربك والمتعب ذهنيا وبدنيا للأمير حيث يبدأ يومه بعد صلاة الفجر مباشرةً ويواصل ركضه وزياراته واجتماعات ه ومناقشاته ومسامراته إلى منتصف الليل ، وقد سألت أحد مرافقيه فقال هذا ديدنه، وقال أخر منذ عرفته قبل خمس وعشرين عاما وهو يسير بنفس الإيقاع ، ” لنفسك عليك حق” ، وحقيقة فهذه أداءات عملية مخيفة تستمر حوالي ستة عشر ساعة يوميا ، وعليكم الحساب أما أنا فقد تعبت وذُهلت و”توبه”
على هامش الجولة • لاحظت حرص الأمير على الجانب الإنساني والمعنوي عندما يتحدث عن أحد من موظفيه أو أخوياه فيقول الزميل فلان الفلاني ويشيد به وبإخلاصه. • أيضا لاحظت تكراره عبارة ” خير الكلام ما قل ودل” تلميحا لمن يطيل حديثه ويستأثر بالوقت ويكرر عباراته ” يريد كبسولات مختصرة”. • وانا أستعرض أسماء من تولى رئاسة مركزالأمواه تذكرت رفيق الدرب الصديق محمد بنسعد الخثلان حيث تولى عمه عبدالله سعد الخثلان أمارة هذا المركز، وتذكرت الطيب النقي أحمد بن يحيى بن خلبان الذي فقدناه العام الماضي والذي كان رحمه الله يحتفظ بذكريات جميلة يمتعنا بها في المجالس. • أثناء المسامرة المسائية كان الأمير تركي يستقبل المشايخ ويستمع للآراء ويطرح أفكار جديدة وفي ذات الوقت اتصل بوزير النقل لمتابعة موضوع يهم عسير وأهلها ورفع لدينا درجة التفاؤل عندما قال هناك مستجدات مبهجة سوف تسمعونها قريبا. • أخذ معه في جولته المسئولين المعنيين بالخدمات وكان يجلسهم معه في كل اجتماع في كل محافظة ويثني على المبدع منهم ويمنح المقصر أو من عليه ملاحظة مهلة وفريق العمل يرصد للمتابعة. • رسالة الأمير تركي الضمنية عن عدم رغبته في البهرجة والولائم موجهة لبقية المحافظات بدءا من محافظ المجاردة الأسبوع المقبل.
خاتمة أقبح الصدق ثناء المرء على نفسه مع هذا سوف أثني على الأمير تركي لأنه من نفسي وأقول لكم منطقة عسير مقدمة على مرحلة غير مسبوقة ….. لله درك من أمير في القول والعمل والتعامل