يعاقب النظام العمالة التي تعمل لدى غير كفيلها وفق المادة 39 بعقوبات مشددة، لكنه يغفل قضية مهمة، وهي أن تلك العمالة ليست جميعها مخالفة بالفطرة، ولا يتسم معظمها بالجشع في جمع المال بأي طريق، فكثير من هؤلاء العمال الذين يعملون لدى الغير اصطدموا بصخور الواقع المر الذي خلقه بعض أصحاب العمل ممن يتسمون بالجشع والطمع، وأحيانا يفشلون عندما يطالبهم عمالهم بحقوقهم المشروعة، وهؤلاء تتباين مواقفهم، فمنهم من يجبر عمالته على الصبر على واقعه المرير أو الترحيل ومنعه من العودة، ومنهم من يترك له الباب مواربا ليبحث عن رزقه بالطريقة التي يهديه إليها عقله، فتقع المخالفة للنظام، وحين يضبط العامل يكون كفيله قد اتخذ احتياطاته اللازمة للتخلص من أي مسؤولية تجاهه. تقص «مكة» تقصت هذه الحالة بعين تنشد الحقيقة، وأخرى تأمل في أن يجد المسؤولون علاجا يوقف شلال المخالفات التي تكتسب أحيانا طابعا مشروعا، ليس بنظاميتها، فهي مخالفة للنظام، ولكنها شرعية إنسانية تفرضها غريزة حب البقاء والخوف من الموت جوعا. التقينا عددا من العمالة لتقصي دوافعهم في اللجوء إلى العمل لدى الغير، فمنهم من تجاوب ومنهم من تجنب الخوض في التفاصيل خشية العقاب. جشع الكفيل «كمال» بنجلاديشي أقر أنه يعمل خارج دوامه في إحدى الشركات، حيث يحترف إعداد القهوة والشاي، كما يقوم بأعمال النظافة براتب يبلغ 1500 ريال، يرسل جزءا منه لأسرته التي اغترب من أجلها. وبرر عمله لدى الغير بأن كفيله أجبره على ذلك، حيث قدم للعمل في شركة تعمل في أحد المنافذ (تحتفظ «مكة» باسمها) براتب 800 ريال منذ 8 سنوات، وفوجئ بكفيله يسلمه 300 ريال فقط، وهو مبلغ لا يكفيه، على حد قوله، لمدة عشرة أيام، مشيرا إلى أن كفيله يبرر ذلك بأنه يوفر له السكن ويتحمل عنه رسوم الإقامة والمواصلات و %80 من تكاليف علاجه بالمستشفيات. تاكسي خاص «سراج» يعمل على تاكسي خاص، قال إنه اتفق مع كفيله على شراء سيارة جديدة من الوكالة باسم الكفيل على أن يتحمل هو دفع أقساطها ويتنازل عن راتبه الذي يفترض أن يتقاضاه من كفيله، بل ويدفع للكفيل ألف ريال شهريا، على أن يحتفظ هو بباقي الدخل الذي يتحصل عليه. وأكد أنه يعمل 16 ساعة يوميا يوصل خلالها 4 معلمات بمبلغ 750 ريالا شهريا عن كل معلمة، بالإضافة لتوصيل عدد من العائلات لمشاويرهم الخاصة، ولم يكتف بذلك، بل وصلت خدماته إلى حد توصيل من يرغب إلى البحرين مقابل 600 ريال ذهابا وإيابا، ولكنه لم يفصح ل «مكة» عن صافي دخله الشهري إلا بعد إلحاح، وقال إنه يتجاوز خمسة آلاف ريال. حصاد ترحيل المخالفين «نوشت» كهربائي في إحدى الشركات ويتقاضى 2000 ريال ويعمل بالفترة المسائية لحسابه الخاص، سألناه، فأكد أنه ينشد تحسين دخله بالاستفادة من الحالة التي أعقبت ترحيل العمالة المخالفة والتي انعكست على زيادة الأجور اليومية حسب نوع العمل، من 150 ريالا في السابق إلى 200 -300 ريال، لافتا إلى أن أجره الشهري يتراوح بين 4 -8 آلاف ريال. مقاول سباكة «شفيق» يعمل بشركة صيانة براتب 2500 ريال في وظيفة سباك، لكنه أيضا يعمل خارج دوامه، أكد لنا أن دخل مهنة السباكة والكهرباء ممتاز وعملها مستمر. وأضاف أنه يتعامل مع مقاولي البناء للقيام بأعمال السباكة للفلل التي تشيد ويتقاضى مبلغا وصفه بالممتاز ورفض الإفصاح عنه. أربعة أضعاف «سليم» يعمل في شركة صيانة براتب 1200 ريال، ومنذ ما يقارب السنوات الست يحترف غسل السيارات وأفنية المنازل في الفترة المسائية، مؤكدا أن علاقته مع عدد من الأسر ممتازة ويتقاضى ما يقارب 150 ريالا شهريا مقابل غسيل فناء المنزل مرة واحدة أسبوعيا، و100 ريال شهريا مقابل غسيل السيارة، مما يحقق له دخلا إضافيا يلامس 3 آلاف ريال شهريا. راتب ممتاز «رامون» فلبيني يعمل فني تكييف بإحدى الشركات ويتقاضى راتبا شهريا 2800 ريال، قال إنه يعمل في الفترة المسائية كفني تكييف ودهان وتركيب ورق الجدران الذي يلقى رواجا الآن لدى معظم الأسر، لكنه رفض الإفصاح عما يتقاضاه من عمله الإضافي، مكتفيا بالقول إنه ممتاز. 1.22 مليون أجنبي يعملون في السعودية بلا مؤهلات اعتبر مختصون في الاقتصاد أن عمل أكثر من 1.22 مليون عامل، يمثلون 11.4% من إجمالي الأجانب العاملين في السعودية، لا يحملون أي مؤهلات، يمكن أن يكون مقبولا نسبيا إذا عملوا في مهن خدمية بسيطة كالتنظيف والتغليف والتجميل والتعبئة وما إلى ذلك. لكنهم أكدوا ل»مكة» أن ما يثير القلق هو أن يعمل هؤلاء في مجالات مهمة كقطاع التجزئة أو في أعمال تتطلب مهارات في تشغيل الآلات والبناء والقيادة، أو كجزء من أعمال التستر التجاري، وغيرها من الأعمال التي تتطلب مؤهلات عالية، مما يعني أحد أمرين، رداءة المنتجات والخدمات التي يقدمونها وما يندرج تحت ذلك من أخطاء مهنية، وخسائر اقتصادية تبلغ أضعاف رواتبهم، والأمر الثاني إضاعة الفرصة على كثير من السعوديين الباحثين عن عمل ممن يمكن تشغيلهم في قطاع التجزئة على سبيل المثال والذي يتسم العمل فيه بربحية عالية، ويمكن أن يستوعب أعدادا كبيرة من السعوديين العاطلين.وطالبوا بتوفير إحصاءات أدق بما يساعد على تكوين رؤية أوضح عن واقع هذه العمالة غير المؤهلة. وبحسب بيانات مصلحة الإحصاءات العامة فإن نحو 25% من عدد العاملين الأجانب في السعودية الذين تجاوزوا 10.72 ملايين عامل، إما يحملون شهادة الابتدائية أو يقرؤون ويكتبون فقط أو أميون.وتوزعت النسبة الباقية (75%) على باقي الشهادات من المتوسطة فما فوق. مخاوف التستر يقول أستاذ الاقتصاد في معهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض ناصح البقمي كثير من هؤلاء جزء من جرائم التستر التجاري، وجزء آخر عمالة سائبة تشكل خطرا أمنيا بانخراطهم في أعمال قد تكون غير قانونية كترويج المخدرات وغسل الأموال، فضلا عن تحويل أموالهم للخارج، ما يضر بالاقتصاد الوطني. وقال نحن نملك نظاما قويا لمحاربة التستر التجاري، لكن الأهم من النظام ذاته هو سد جميع الثغرات التي تؤدي للتحايل عليه. وأضاف أن لوزارة التجارة جهودا ممتازة في هذا المجال، ونأمل أن تفضي الحملات التصحيحية لوزارة العمل إلى القضاء على العمالة المخالفة، وهو أمر تشترك فيه عدة جهات. فئة غير مصنفة من جانبه قال الباحث الاقتصادي والمتخصص في الاقتصاد الإقليمي والمالية العامة الدكتور علي التواتي يجب الأخذ في الاعتبار أن جزءا من العشرة ملايين أجنبي هم شبه مهاجرين أو مقيمين في السعودية إقامة دائمة كالبرماويين والأفارقة والبدون، وعملهم طبيعي جدا هنا، وتقييم أثر عمل أكثر من مليون عامل أجنبي بدون مؤهلات يعتمد على القطاع الذي يعملون به، فإذا كانوا يمارسون أعمالا كالتنظيف والتحميل والتغليف والتعبئة فلا بأس وهذا أمر طبيعي لأننا بحاجة لهم كما نحن بحاجة لحملة المؤهلات. لكن الإشكال يأتي من أن يعمل هؤلاء في قطاع البيع بالتجزئة والجملة وهو قطاع واسع يكفي لتشغيل أعداد كبيرة من السعوديين، كما أن الربحية فيه عالية، لذا نحن بحاجة لبيانات أكثر تفصيلا لإعطاء حكم أكثر دقة. أخطاء مهنية وفي السياق ذاته، قال نائب رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى الدكتور فهد العنزي لا بأس إذا كانوا يعملون في مهن لا تتطلب أي مهارات أو أي تعامل مع أجهزة، لكن الحقيقة أن الشكاوى كثيرة من الأخطاء المهنية ورداءة المنتجات وحوادث السيارات وإتلاف الأجهزة التي يتسبب بها عمال لا يمتلكون أدنى حد من المهارات، وأحمل أرباب العمل في القطاع الخاص جزءا كبيرا من المسؤولية، فرخص رواتب هذه العمالة تغريهم باستقدامهم ولكن الخسائر الاقتصادية التي يتسببون بها كبيرة وهي الناجمة عن أخطائهم المهنية وضعف تأهيلهم وإتلافهم للأجهزة التي يشغلونها وإتلافهم للسيارات التي يقودونها وكثرة تسببهم في الحوادث، فحتى من يعمل في قطاع التنظيف في المستشفيات والشركات وشركات التنظيف عمله يتطلب تشغيل آلات غالية الثمن، ومن يجهل مهارات البناء سينتج منزلا رديئا يكلف المالك عشرات الألوف للصيانة، فهؤلاء يعتبرون السعودية سوقا كبرى للتدريب، يصلون لها بدون أي خبرات ويخرجون منها وقد تعلموا ليحصلوا على فرص وظيفية في بلدان أخرى.