في صغري كانت تسكنني تساؤلات عدة: كيف يعيش الطبيب والمعلم والمثقف؟ هل يأكلون كما نأكل ويشربون كما نشرب وينامون كما ننام؟ كنت أندهش عندما أرى معلمتي تدخل من باب المدرسة، وأبقى وصديقاتي نترقبها كيف تسير وأين تذهب وكيف تأكل؟! براءة الطفولة تصور لي أنهم مخلوقات قادمة من كوكب أخر لا علاقة له بكوكبنا. كنت أشعر برهبة أمامها وأمام الطبيب، أما المثقف فكان أعظم شأنا وأكثر الذين يخلق فينا الدهشة والغرابة، فلو ظهر لنا مثقف في مكان ما مشاهدا أو مسموعا، كنا نترقب كل كلمة وكل حركة، نسجلها ونحفظها، ونحن نسمع نظن أنه رسول منزل! حتى أسماؤهم رسخت في ذاكرتنا لقوة اندهاشنا بهم وبحضورهم. كان للمثقف سطوته وهيبته وكلمته المسموعة وتأثيره في المجتمع، سواء كان على الأفراد أو المؤسسات، وربما كان هذا التأثير لندرة التواصل التي تكون مقتصرة على حوار صحفي أو إذاعي أو تلفزيوني، أو مشاركة واحدة في السنة بأحد الملتقيات الثقافية، فعندما يحضر يكون محط أنظار الدهشة والهيبة. وقد يكون لقلة العدد، فكان المثقفون والأدباء أقل عددا وأكثر نفعا مما هم عليه اليوم اليوم، وللأسف كثر العدد حتى يكاد يكون في كل منزل مثقف أو أكثر، ظنا منا أو منهم أن الثقافة ركن كتب مصفوفة ورزمة أوراق وتنظير في مواقع التواصل الاجتماعي.. المتثيقفون وسعوا الفجوة بينهم وبين المتلقي، وخلقوا جسرا من المعرفة السطحية التي لا تنجم عن المثقف الحق.. خلقوا لأنفسهم بوتقة مغلفة بالصمت، يقرؤون وينعزلون عن مجتمعهم وكأنهم يطورون أنفسهم لصناعة جيل من كوكب آخر، وينتمون إلى مجتمع غير الذي يعيشون فيه. والمثقف الحق في نظري هو الذي يطبق ما يقرأ وما يكتب، لا أن يضع نفسه في القمة ليكون الناس تحته يجلدهم بقلمه ولسانه معتقدا أنه بلغ الكمال والمثالية. أن أكون مثقفا لا بد أن أعيش في أزقة المجتمع.. أجوب شوارع الفقر، وأستمع إلى شكوى الضعفاء، وأستند على قضايا تؤهلني أن أكون اسما يقف الناس من أجله احتراما وتقديرا.تعاد للمثقف هيبته وتقديره عندما يقدر مجتمعه، عندما يقدر وطنه، أرضه، ويجعله قضيته الأولى.. لا يخاف من رأي بنّاء، ولا وجهة نظر سليمة، تبقي على حياة، وتحافظ على قيم وعادات وتقاليد.. المثقف الحق الذي يكون حلقة من سلسلة تكاملية تحمي الوطن، وتسير به إلى العلو والرفعة. المثقف الذي أقف له احتراما هو ذاك الذي يفعل ما يقول وينفذ ما يكتب.