من نعم الله علينا ، فرصة اللقاء بأحبابنا وزملائنا في مجموعة واحدة ( الواتساب ). هذا البرنامج هو المهيمن والأكثر رواجا في التواصل بين أفراد المجتمع السعودي بمختلف شرائحه ، حتى كبار السن وصغارهم لهم حضور وتفاعل . كان سببا رئيسا بعد توفيق الله في لمّ شتات الأسر والأقارب والزملاء بعد طول انقطاع ؛ ونقل المعرفة والأخبار في لحظة واحدة لآلاف الأشخاص أو يزيدون ، بل وتعرف من قرأها ؟ ومتى قرأها ؟ يُعقد خلاله اجتماعات وتتبعه قرارات ، ومؤتمرات ومؤامرات ، و يستطيع كل شخص أن يعبر عن رأيه دون مقاطعة ، وأن يرسل ما شاء متى شاء حسب قناعته وقيمه وتفاعله. هذه الخدمة الجليلة تحولت إلى عقوبة لدى البعض داخل منزله ، وأصبح يراسل أهل بيته دون الحديث معهم وهم في غرفة واحدة ، بل أصبح هناك نوع من الهجر في الحديث المباشر ، وكل يتفاعل مع مجموعاته بأرق وألطف العبارات ، ونصيب شريكه الجوع والعطش. تدرّج الأمر كثيراً ، وصار الرجل يهجر زوجته ومنزله وأبناءه هارباً بمشاعره بعيداً عن جو الأسرة والالتزامات التي تُطلب منه، بل تقلّص دوره في المنزل والمجالس وأصبح لا يفقه كثيرا مما يدور حوله لأنه في فلك غير فلكهم . وبات يحمل بطارية إضافية وشاحنا منزليا وشاحن سيارة خوفا من أن ينتهي الشحن ولو لبعض الوقت ! أحيانا نجتمع اجتماعات حاسمة ومصيرية وإذا بثلث الأعضاء جسدا لا روح فيه ، تفكيره وتفاعله واهتمامه مع الأخرين ، ويفاجأك وأنت في ذروة الحماس بضحكة وابتسامة ، ليس تفاعلا مع المتحدث وإنما استجاب مع مجموعاته التي تجاوزت عند البعض الخمسين ؛ لذلك قرر بعضهم إغلاق الأجهزة قبل حضور الاجتماع ، وبعضهم وضع لها صندوقا خاصا ، توضع فيه الجوالات قبل الاجتماع ، ليضمن اهتمام الجميع . وتجد في طريقك من يقود السيارة وهي مليئة بالأنفس الزكية البريئة وهو في سُكر وهوس الردود والتعليق والأخذ والرد ، وكأنه يسير في شارع لوحده ، لذلك عند مشاهدة من يفعل ذلك ، أحرص على تجاوزه والهرب عنه . ومن المؤلم أن بعضهم تقام الصلاة وهو واقف في الصف باتجاه القبلة يُكبر الإمام ويشرع في الفاتحة وما زال مشغولا بمحاولة التعليق و الرد ، ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الإمام ليعود لجهازه قبل أن يقول الأذكار التي بعد الصلاة . عالم إفتراضي فرض نفسه علينا ، وسرنا خلفه بكل جنون ، حتى بعض من كنت أحسبهم أهل فضل ورجاحة عقل ، تجده متصلا طوال الوقت لا تفوته شاردة ولا واردة إلا كان مطلعا عليها ومعلقا وناقلا لها . والمرض العضال أن اسرار البيوت تجدها ماثلة في الحالات وصور العرض التي تعكس وضع صاحبها ، فأصبحنا نعرف المسافر والمقيم والعزاء والمناسبات من خلالها . وقد يكذب كذبة تبلغ الأفاق في لحظات ، ثم نكتشف أنها كذبة بل فرية لا صحة لها ، وماتجده في هذه المجموعة يكرره ذات الشخص في كل مجموعاته ، ثم يعيدها شخص أخر ويعتذر للتكرار ، هوس لا حدود له . وما يصلك اللحظة لاتظنه سبق إعلامي ، فقد تجد نفسك أخر الناس علما به وقد سُبقت إليه ولو بجزء من أجزاء الثانية . إلتقيت بأحد المربين وتناقشنا في هذا السرطان الذي فتك بالوقت والمشاريع الاستثمارية التي لو صرف فيها من الوقت ماينفق على برامج التواصل الاجتماعي لحققنا أهدافا عظاما ، فأخبرني أنه طبق تجربة في بيته بمعدل يوم في الأسبوع ، بعنوان ( يوم بلا تقنية ) . يقول : صلينا الفجر يوم الجمعة في الجامع ، وبعد عودتي وجدت كل أفراد أسرتي قد خلدوا للنوم بما فيهم زوجتي ،بعد ليلة حافلة بالأجهزة الذكية ، يقول دخلت المنزل وإذا كل جهاز متصل بشاحنه استعدادا لمواصلة النضال بعد الاستيقاظ . تأملت الوضع ، فكان مؤلما مؤسفا ، فما كان مني إلا أن جمعت جميع أجهزة الأبناء والبنات والأم وجهازي ووضعتها في الخزنة ثم أحكمت الإغلاق ، ثم نمت وسكت وكأن شيئا لم يكن . استيقظت على صراخ أسرتي فقد قام كل واحد منهم يبحث عن جهازه ، ويتهم بعضهم بعضا . يقول : خشيت أن تقع فتنة بين أهل بيتي من خلال بحثهم عن عالمهم الذي سلبهم رحمة بعضهم بعضا ، فأخبرتهم ، وأعلنت القرار الذي يحمل ( يوم بلا تقنية ). يضيف قائلا : ذلك اليوم من أجمل أيام العمر ، فقد شعرنا كم نحن محرومون من حبنا لبعضنا ؟ وكم رحلنا بعواطفنا واهتماماتنا عن أحبابنا ؟ كان ذلك اليوم استثنائيا لأسرتي فقد اكتشفت أن لدى أبنائي مواهبا وإبداعات أخفاها عني عالم الأجهزة الذكية !! ورمضان دوحة العابدين وهو على الأبواب !! عبدالله بن حسن الشهري المشرف التربوي بتعليم النماص