في دورة مونتريال عام 1976م وقعت خسارة مالية على غير انتظار، أصابت الدولة المضيفة واللجنة الأوليمبية العالمية في وقت واحد، وتقرر على الفور تبديل \"الصيغة التجارية\" المتبعة، وبدأ الإعداد لدورة لوس أنجلوس بعد ثماني سنوات، أي عام 1984م، باعتبار ظروف الشيوعية المرتبطة بموسكو في تلك الفترة وكانت هي المضيفة لدورة عام 1980م، فلم يكن سهلاً تطبيق صيغة \"رأسمالية\" عليها. وكان الإجراء الأول – كما هو الحال في أي شركة عملاقة – اختيار \"رجال أعمال أكفاء\" لوضع الخطة التالية وتنفيذها، وكان أحدهم \"خوان أنطونيو سامارانج\" الذي ترأس اللجنة الأوليمبية والثاني \"هورست داسلر\" الذي كان يعمل رئيسًا لشركة \"آديداس\" المعروفة للمنتجات الرياضية، وكان أحد المشاهير في عالم \"الدعاية الرياضية\" وابتكرت الإدارة الجديدة ما يسمّى \"الرعاية الدعائية\" وهي اختيار شركات كبيرة معروفة يحق لها دون سواها استخدام رموزها المعروفة في المباريات، على الألبسة، وفي جدران الملاعب، وعلى الشاشة الصغيرة مباشرة، بالإضافة إلى مشاركة المحترفين الرياضيين لجلب مزيد من المشاهدين. 1.5 مليار دولار دخل اللجنة الأولمبية من الدعاية: ومن أصل مجموع عائدات اللجنة الأوليمبية من قطاع الدعاية في حدود 1.5 مليار دولار لكل دورة، بدأت العائدات من حقوق هذه الرعاية الدعائية وحدها ترتفع باطّراد، من 100 مليون دولار في دورة \"سول\" عام 1988م إلى 350 مليونًا في أطلانطا 1996م، وهناك كانت شركة \"كوكا كولا\" على رأس قائمة الشركات العشرة، وقد بلغ مجموع حجم إنفاقها على الدعاية العالمية لنفسها 1.5 مليار دولار، في 130 بلدًا في أنحاء العالم.. وارتفع حجم مبيعاتها عالميًّا بنسبة 17% خلال الشهور الثلاثة فقط التي سبقت الدورة الأوليمبية. ويمكن تفسير ذلك جزئيًّا على الأقل بالدعاية عبر التلفاز أثناء المباريات؛ حيث يصل اسم الشركة أو رمزها إلى ملياري مشاهد في أنحاء العالم، يقول أساطنة الفن الدعائي: إن هؤلاء المشاهدين وهم يستمتعون بمشاهدة مبارياتهم المفضلة، يكونون في أفضل حال للتلقي؛ وبالتالي للإقبال على الإنتاج الذي يقترن اسمه أو رمزه بتلك المباريات أمام أعينهم، وهذا ما يطلق الخبراء عليه وصف \"الاتصالات البصرية\". وتقول شركة \"آديداس\" الشهيرة في عالم الدعاية لمنتجاتها الرياضية: إن عدد تلك الاتصالات يناهز أربعين مليارًا أثناء الدورة الأوليمبية الواحدة، والمقصود هو الجزء من الثانية، لحظة وقوع عين مشاهد الشاشة الصغيرة على الدعاية المرافقة لمباراة رياضية يتابعها. وتضع الشركات في حسابها – علاوة على هذا المفعول للدعاية المباشرة أثناء المباريات الرياضية – مفعولاً أكبر الدعاية غير المباشرة، كذكر اسم شركة ما – مثل آديداس – باعتبارها قامت بتجهيز هذا النجم أو ذاك من نجوم الرياضة المعروفين، وهو ما تتضمنه النشرات الإخبارية والتقارير الإذاعية، وهذا ما لا يقتصر على فترة متابعة المباريات فقط. ومع ظهور أسماء تلك الشركات على ملابس الرياضيين وفي الملاعب وفي نشرات الأخبار وعلى الألبسة والدعاية في الأسواق عمومًا.. يمكن الجزم بأن الشركة المعنية ستكون الفائزة بتحقيق أغراضها.. سواء خسر الفريق الرياضي الذي ربط نفسه باسمها أم كسب مباراته. شارة الأولمبياد أشهر من رؤساء الدول: ويشير معهد الاقتصاد الألماني في كولونيا إلى ما يعنيه ذلك من خلال دراسة يرد فيها مثلاً أن شارة الحلقات الخمس للألعاب الأوليمبية معروفة لأكثر من تسعين في المائة من الألمانيين والأمريكيين واليابانيين والبريطانيين، وهي نسبة عالية تعتبر بمثابة الأحلام عند استطلاع الرأي مثلاً عن مدى معرفة السكان باسم رئيس دولتهم أو اسم الحزب الحاكم فيها. ولا غرابة إذن أن تنفق الشركات عشرات الملايين من أجل أن يقترن اسمها دعائيًّا بذلك الرمز الأوليمبي، الذي تحمله منتجات وسلع لا حصر لها، بدءاً بالقمصان الرياضية وانتهاء بلعب الأطفال. وما يسري على الألعاب الأوليمبية بهذا الصدد يسري على سواها من الأحداث الرياضية، وعلى سبيل المثال ربطت شركة تيليكوم الألمانية للاتصالات مخططات توسيع أعمالها عالميًّا بمخطط مسبق يتضمن \"الرعاية الدعائية\" من جانبها للرياضيين الألمان في سباق الدراجات العالمي الأكبر في فرنسا، وعندما تحقق النصر الرياضي للمتسابق بيارني ريس عام 1996م، ثم للمتسابق \"يان أولريخ\" عام 1997م، بدأت الشركة بالتحرك فعلاً على المستوى العالمي، معتمدة على أن اسمها أصبح معروفًا عند عدد كبير من المشاهدين للسباق عبر التلفزة . أولى ميادين الدعاية الاقتصادية: لقد أصبحت الدعاية عبر المباريات فرعًا اقتصاديًّا عملاقًا يقوم على دراسات منهجية مفصلة من جانب المتخصصين في هذا الميدان، ويقول معهد البحوث العلمية للتسويق في كولونيا بهذا الصدد: إنّ الشركة تعطي الأولوية المطلقة لتثبيت مكانتها العالمية، وتسويق بضائعها، وتحقق ذلك عبر ربط ميول المستهلك من المشاهدين إلى لعبة رياضية أو إلى أحد النجوم المفضلين لديه، بميله التلقائي إلى الشركة التي يقترن اسمها بتلك المباريات وأبطالها الرياضيين. بل وتبوأت \"الرياضة\" في هذه الأثناء المرتبة الأولى بين سائر ميادين الدعاية الاقتصادية في أنحاء العالم، وأصبح حجم الإنفاق الدعائي المقترن بالرياضة عالميًّا يعادل 1.3 مليار دولار في السنة، وهذا مبلغ يناهز ضعف ما يُنفق للدعاية في قطاع الثقافة من كتب ومسارح وصناعة سينمائية وغيرها، وخمسة أضعاف نفقات الدعاية في قطاعات العلوم والبيئة. إنّما تتبين الاستفادة الحقيقية لصالح الشركات المعنية عبر المباريات الرياضية، عند الإشارة إلى أنها تنفق ما يعادل ضعف المبلغ المذكور إلى ثلاثة أضعافه، في الدعاية \"التفصيلية\" التي تتبع عادة الدعاية عبر الاسم أو الرمز فقط أثناء مشاهد تصوير المباريات في مواسم البطولة العالمية. ولا يوجد من بينها شركة واحدة لا تحصّل أضعاف ما تنفقه للدعاية عبر زيادة الأرباح نتيجة الترويج لسلعها. 4 – المال يصنع جيل المستقبل بلا قيم رغم تحكّم المال في عالم الرياضة حتى أصبحت ظاهرة شراء النجوم الرياضيين بالملايين وعشرات الملايين منتشرة انتشارًا واسعًا، لا ينبغي انتشار الانطباع بأن النهضة الرياضية في البلدان المتخلفة رياضيًّا، كالبلدان العربية والإسلامية، ليست مطلوبة. ولكن متابعة الأساليب المتبعة في الوقت الحاضر لجلب المباريات العالمية، أو المشاركة فيها، تشير إلى أمرين رئيسيين ينطويان على خطورة بالغة: الأمر الأول: أن الأخطاء التي سارت عليها الدول الأخرى حتى أمسك المال بعنق الرياضة والرياضيين، أو أصبح بعضهم جزءاً من اللعبة المالية نفسها، يمكن أن تقع في بلادنا رغم وجود ما يكفي من \"الدروس\" للاستفادة منها من أجل تحقيق النهضة الرياضية المرجوّة، وفق أهدافها الأصلية: متعة وفائدة، أما السير على الطريق التي سار آخرون عليها وأوصلت إلى تحويل الرياضة إلى تجارة، وتحويل الشبيبة إلى مستهلكين، وتحويل الرياضيين إلى أدوات، وتحويل الإعلام إلى صفقات، فذلك ما لا ينبغي أن يقدم عليه عاقل؛ فقد تتحقق منه المنافع بالمليارات لفئات تتحكم بحركة الأموال عالميًّا.. أما القول: إنه يحقق المنفعة العامة للشعوب، ولا سيما لجيل الشبيبة، فذاك ليس مشكوكًا فيه فحسب، بل ظهر البرهان على عدم صحته بما فيه الكفاية. والأمر الثاني: وثيق الصلة بالجانب المالي، فتحكُّم المال في عالم الرياضة لم ينشأ من فراغ، بل كان نتيجة حتمية لضياع القيم في مختلف الميادين في الغرب، الذي يتزعم الميدان الرياضي الجماهيري كسواه، فأصاب ميدان الرياضة ما أصاب سواه. الأهداف السياسية والاجتماعية من نشر الرياضة: على أن النتائج الأشدّ وطأة في قطاع الرياضة الجماهيرية بالذات هو أنها أصبحت وسيلة من وسائل صناعة جيل المستقبل بأساليب يتحكم المال بها وبالغايات الموصلة إليها.. وهنا يمكن ذكر بعض النقاط الرئيسية بإيجاز: 1 – في البلدان العربية حيث لا يشارك جيل الشبيبة في صناعة قرار سياسي أو اقتصادي أو فكري أو اجتماعي، ولا تجري توعيته وتأهيله في هذا الاتجاه إلاّ قليلا.. يلاحظ مدى السخاء في عدد الصفحات الرياضية والساعات الرياضية في مختلف وسائل الإعلام؛ إذ وصلت حصتها إلى نسبة مئوية عالية غير عادية بالمقارنة مع سائر ميادين الإعلام الأخرى. لقد تحوّلت الرياضة بهذا الأسلوب إلى وسيلة \"إلهاء\" عن قضايا أخرى قد تكون مصيرية، بدلاً من أن تكون وسيلة إعداد الشبيبة لخدمة القضايا المصيرية. 2 – لا يستهان بأهمية الرياضة في حياة الأفراد والمجتمع بمختلف فئاته، وهذا ما يستدعي الحرص على ألا يغلب جانب المتعة على سواه، وأن يتناقض مع المعايير والقيم الخلقية في بلادنا، كأساس لتوظيف الرياضة وسيلة من أهم الوسائل لتكوين الفرد معنويًّا ونفسانيًّا وجسمانيًّا، وكعنصر من عناصر المجتمع الآن وفي المستقبل، ومن الخطورة بمكان التضحية بهذه الأدوار الرئيسية للرياضة في المجتمع، من أجل زيادة بعض الأفراد الأثرياء ثراء فحسب. 3 – تحت تأثير المال على الرياضة ابتُكرت في الغرب ألعاب رياضية تستغلّ الغرائز تحت عنوان المتعة، بما في ذلك تمجيد العنف، حتى تحوّل مرتكبوه على الشاشة الصغيرة باسم الرياضة إلى أبطال ورموز، فهم لا يحصلون على الجوائز فقط، بل يجدون في الوقت نفسه من يحذو حذوهم في الميادين الأخرى من حياته. 4 – كذلك حوّلت الصفقات الرياضية المباريات والبطولات من ميادين متعة محبّبة ومشروعة منضبطة، إلى وسيلة تجعل مجرّد \"الفوز الرياضي\" هدفًا بحدّ ذاته، وهو منطلق يجري تعميمه في المنطقة الإسلامية، بصورة تنطوي على تكرار إثارة غرائز تعصّب قومي وإقليمي وقطري بات في الغرب من أسباب ظهور مجموعات العنف الرياضي وغير الرياضي المعروفة، وبما يتناقض مع أي شعار عن التسامح لألعاب رياضية عالمية. كما أن الفوز أو الظهور بمظهر النهضة الرياضية لمجرد الفوز والظهور فحسب، منطلق يجري تعميمه في البلدان الإسلامية بأسلوب لا يتحاشى مثلاً ما تتعرّض له \"الفتاة المسلمة\" من ضغوط وإغراءات لتسلك سبل رياضيات غربيات، ممن أصبحن جزءاً من تركيبة القطاع التجاري بالرياضة كسلعة رائجة، وليس لديهنّ ما يمكن أن يحفظهن من ذلك، كما هو الحال مع المسلمات من قيم خلقية واجتماعية والتزامات دينية وثوابت سلوكية. 5 – إن توظيف الرياضة مع سواها لتكوين جيل المستقبل من الناشئة والشبيبة، لا يتحقّق من خلال توفير المنشآت وفتح النوادي وتشجيع المواهب فحسب، بل يتطلب أيضًا سياسة حكيمة، تربط الأغراض الرياضية التقليدية بالأغراض المعنوية الأبعد مدى، لتحويل الرياضة إلى \"رسالة\" ينبغي أن نؤدّيها، دون أن تفقد عنصر المتعة فيها، ودون أن تسوقنا من حيث نريد أو لا نريد، إلى الانحراف بجيل المستقبل وميادين اهتمامه والإنجازات المرجوّة منه على كلّ صعيد، وعلى الصعيد الرياضي نفسه أيضًا. 6 – إن فتح أبواب بعض البلدان العربية والإسلامية لاستضافة مهرجانات أو مباريات رياضية عالمية، لا يؤدّي بحدّ ذاته إلى نهضة رياضية محلية، ما لم يقترن بالجهود الذاتية للارتفاع بمستوى الأداء الرياضي محليًّا.. فلا ينبغي أن تغلب عليه الرغبة المجرّدة لمشاركة \"الآخرين\" عالميًّا، أو الوهم بالظهور في موقع \"عالمي\" متميّز، بل ينبغي العمل على وضعه ضمن مخطّط مدروس، لاختيار الأفضل فيما يستضاف من جهة، ولربطه بحركة التنمية الرياضية المحلية من جهة أخرى. النهضة الرياضية مطلوبة، شريطة توجيهها بضوابط القيم وثوابتها؛ حتّى تكون لنا في بلادنا العربية والإسلامية صيغة أخرى في رسم معالم السياسة الرياضية على أعلى المستويات، وفيما نريد أن ننشره ونمارسه عبر النشاطات الرياضية في مختلف الميادين.. وذلك وفق اقتناعاتنا الذاتية وقيمنا العقدية والحضارية والاجتماعية.. وليس وفق ما يسري لدى سوانا، بل ويعاني سوانا من عواقبه في الميدان الرياضي وسواه أشدّ المعاناة !..