الحياة كانت بسيطة وسهلة، لا تعقيدات، حيث كانت معرفة الرجال كنوزا، يتضامنون دائما في الخير، فيكون الدين المعاملة، والترابط الاجتماعي أقوى، بعيدا عن الملهيات العديدة التي شغلت الشباب الآن. أحمد العبدلي 73 عاما، أقدم خباز في مدينة جدة، ولا يزال يضع يده في صنعة العجين رافضا التقاعد عن العمل، يعود بالذاكرة ويروي تفاصيل تلك الأيام: قبل أكثر من 60 عاما كانت هناك وجبتان متعارف عليهما، الأولى وجبة «الأربعة قروش» التي كنت آكلها منذ الصغر بمدينة جدة، وتتكون من الخبز والفول، أما الثانية فهي التي يطلق عليها العادية، وتحتوي على الخبز فقط وكانت بثلاثة قروش. عملت في بداية حياتي في بعض منازل أعيان جدة بأجر لم يكن يتعدى 40 ريالا شهريا، وبعدها تعلمت المهنة من ابن عمي الذي كان يعمل في «كليب» أشهر محل لتقديم الوجبات الغذائية آنذاك قبل أكثر من 50 عاما مضت، وتدرجت في المهنة حيث كانت البداية عجانا، ومن ثم تدرجت إلى مرحلة الإعداد والإشراف والإخراج، وهي مراحل تصنيع الخبز وتقديمه للزبائن. كنت أتقاضى يوميا مبلغ أربعة ريالات مقابل صناعة الخبز، وكان التميس مع الفول في الماضي لا يقدم الا في فترة الصباح، في حين تغير الحال اليوم وباتت تقدم في كل الأوقات صباحا ومساءً، وكان الخبز نوعا واحدا، يسمى «التميس» أما عن اليوم فقد تنوع وأدخل عليه الكثير من التعديلات، فيوجد اليوم زبائن للتميس بالجبنة، وكذلك التميس بالسكر، والتميس بالخضراوات، إضافة إلى التميس بالسمن. وعن طريقته وأسلوبه في الصنعة يقول العبدلي: «زبائني من مختلف الجنسيات حيث باتت الأرغفة التي أقدمها «رسالة» لبقية الجنسيات الوافدة الآسيوية تحديدا، التي تفضل أرغفة العبدلي ذات المذاق الخاص والرائحة الزكية». وعن المدن التي عمل بها يقول: «عملت في المدينةالمنورة في سوق الطباخين، وباب الكومة، وباب شامي، وفي مكةالمكرمة في حي الملاوي، واستقر بي الحال في عروس البحر جدة، ولكن أجمل الأيام كانت فترة عملي في المدينةالمنورة، حيث شهدت أيام شبابي حينها بالإضافة إلى رقي الناس في تعاملهم. تزوج العبدلي من أربع نساء، لم يبق منهن سوى واحدة: «منهن من طلقت ومنهن من ماتت، ولي 17 ولدا وبنتا من كل نسائي، ولدي أكثر من 44 حفيدا وحفيدة، جميعهم في اليمن ولا أعرف عنهم الكثير بسبب استقراري في مدينة جدة منذ أكثر من 60 عاما». لكن ما هو سر استمراره في هذه المهنة الشاقة؟ يقول العبدلي: «معظم رفاقي وأصدقائي في المهنة ماتوا، والبعض ترك المهنة نظرا لكبر السن وعدم القدرة على الحركة كالسابق، ومنذ 60 عاما أصحو مبكرا وأنام مبكرا وأحافظ على الصلوات وأمتنع عن السهر وشرب الدخان. هذا هو السر» .