في حوار حمل من الثراء قدر ما حمل من المتعة، تحدث الداعية الشيخ حسن بن عبدالله بن قعود ل”شمس” عن نقاط متعددة، وهكذا تكون طبيعة الحوار مع شخصية عركتها الخبرة وصقلتها التجربة، وأجاب الشيخ عن أسئلتنا مصححا مفاهيم، ومفصحا عن وجهة نظره في عدد من القضايا، مثل انتظام بعض الشباب في صفوف الدعاة، مطالبا إياهم بضرورة التزود بالعلم، وعدم اقتحام حمى الفتيا؛ لأنها “توقيع عن رب العالمين”. واستعرض الشيخ الجليل جزءا من ذكرياته الرمضانية أيام الطفولة، وتحدث عن والده المبجل الشيخ عبدالله بن قعود عضو هيئة كبار العلماء لسنين طويلة، وعن بعض صفاته وأخباره.. فإلى تفاصيل الحوار. * بداية.. هل أنت مع ما يسمى تخصص الدعاة؟ انطلاقا من واقع اليوم الذي كثر فيه انتشار الفساد وقلّ الدعاة؛ فإنني أرى أن التخصص أصبح أقرب إلى الوجوب، حيث ينبغي أن يكون هناك دعاة متخصصون في مخاطبة الشباب وتوجيههم، فلو طلبنا مثلا من أحد العلماء الكبار أن يلقي كلمة أو محاضرة في إحدى المدارس الابتدائية، أو أراد هذا العالم مثلا أن يتحدث إلى الشباب لما استطاع أن يجذب انتباههم ويظفر باهتمامهم؛ فتخصص دعاة في فنون معينة كالجوانب الأسرية أو حتى الشبابية أمر مهم للغاية. * لكن.. ألا ينبغي أن يكون الداعية (شموليا)؟ لو كان شموليا لكان أمرا حسنا، لكن المشكلة أن الشمولية أحيانا قد لا تجعله متمكنا من التأثير؛ لذلك فإن التخصص مطلوب أكثر من الشمولية، وفي أحيان كثيرة تكون مشكلة الداعية ليست فيما يحمله من علم، بل في طريقة توصيل هذا العلم للناس، حيث يتعذر عليه التواصل مع الجماهير لعدم استيعاب الأسلوب الأنسب، وقد لاحظنا مدى تأثير بعض التائبين القوي جدا في صفوف الشباب، على الرغم من أنهم لا يملكون علما كثيرا. * إذاً فالمشكلة ليست قلة علم، بقدر ما هي مشكلة أسلوب بالدرجة الأولى أحيانا.. أليس كذلك؟ بالفعل.. ودعني أبسط لك المسألة قليلا، لو نظرنا إلى التسجيلات الإسلامية، وإلى المحاضرات نجد أن من ينطبق عليه صفة العالم قليل، وكثير من الدعاة لا يملكون شيئا من العلم، بل انظر إلى الأشرطة التي يوزعها بعض الإخوة في الدعوة، وابحث في الأسماء، فلربما وجدت فيهم من ليس له في الاستقامة أكثر من سنتين، في حين سيكون من النادر جدا أن يتم توزيع شريط عالم ما؛ لأن أشرطته في غالب الأمر ستكون علمية صرفة. لكن هؤلاء الدعاة الجدد يفهمون كثيرا عن الشباب وأساليب التأثير فيهم؛ لأنهم عاشوا قضاياهم وتغلغلوا في داخلهم. وقد يكون هؤلاء الدعاة الجدد واقعين في مشكلة قلة علمهم، بسبب حداثة تجربتهم، وجدة إمساكهم بزمام الصراط المستقيم. * وما الذي يجعل من لا يحمل كثيرا من العلم أن يتصدر للدعوة والفتوى؟ المشكلة أن عددا كبيرا منهم كان معروفا ومؤثرا في جاهليته، ثم لما استقام أمره وتوجه إلى الله، التف الناس حوله مباشرة، وربما صدّروه ليلقي الكلمات والمحاضرات دون أن يكون لديه علم يؤهله إلى ذلك. وفي أحيان كثيرة تجده بصورة شخصية مقتنعا بأنه لا يصلح لما تصدر له. لكن هل نقول له توقف عن إلقاء الكلمات، واحرم نفسك من هذا الخير؟! من هنا ينبغي على هؤلاء الشاب أن يرتبطوا بالعلماء، ويجتهدوا في تحصيل العلم الشرعي؛ لأن القضية قد تتعدى مسألة إلقاء الكلمات، إلى اللجوء للفتوى خلال الرد على تساؤلات من حوله، ومن يحسن الظن به؛ لذلك من المهم جدا أن يهتم الدعاة الجدد بأنفسهم علميا. * إذاً ما الطريقة المناسبة لإنزال الناس منازلهم؟ أن يكون عند الناس الوعي الكامل بأن العالم مثلا هو من يفتي في المسائل العلمية، وأن طالب العلم يفتي في بعض المسائل التي له بحث فيها، وأن الداعية هو من يدعو من خلال المحاضرات ولكنه لا يفتي الناس. كذلك فإنّ التائبين الذين يتوبون عن المخدرات أو التفحيط، لهم ما يناسبهم، ويجدر أن يقتصر حديثهم على تجربتهم فقط، لا أن يخلط الحابل بالنابل؛ فينبغي ألا يتحول التائب من المخدرات إلى المفتي، وطالب العلم إلى العالم. والمفترض من العامة أن يعرفوا هذا ويعوه جيدا. * ألا يمكن أن تذكر لنا شيئا من المواقف الدعوية التي حصلت لك؟ في الحقيقة المواقف كثيرة، منها أنني وعددا من جماعة المسجد عزمنا على زيارة أحد جيران المسجد وكان لا يصلي، فما إن طرقنا الباب وفتح لنا، وسلمنا عليه وطلبنا أن نجلس معه وقتا يسيرا، حتى أشار إلينا بالقبول ولكن أمهلنا دقائق أمام الباب حتى يجهز غرفة الجلوس. وظللنا ننتظر نحو ثلث الساعة حتى أصابنا الملل. وكنا كلما سمعنا صوتا توقعنا أنه أتى ليدعونا للدخول، فتنصرف فكرة أن نمضي من حيث أتينا، وبالفعل جاء الرجل وأدخلنا منزله وتحدثنا في أمور عامة. وقد تاب ذلك الرجل وأصبح يصلي معنا، وبعد مضي مدة طويلة على هذا الموقف سألته عن سر غيابه عنا، وإبقائنا هذه المدة الطويلة أمام داره، فقال: “كان بيتي يعج بآلات الطرب واللهو، وعندما رأيتكم وأنتم بالباب، تملّكني الفزع وتملكني الحرج، ودخلت مسرعا أريد أن أخرج آلة موسيقية كبيرة كانت في صدر المجلس، وكنت أنا وزوجتي نحاول أن نحل المسامير، ونجاهد طويلا حتى استطعنا إخراجها، ولهذا السبب تأخرت عليكم، وكان همّي أن أنجو من لومكم وعتابكم لو رأيتم هذه الآلة في بيتي، والحمد لله أنكم لم تروها”! * كيف تنظر إلى رمضان وإمكانية الاستفادة منه؟ رمضان يعد فرصة للتغيير، ودورة ربانية للتربية على مكارم الأخلاق والعمل الصالح، فمع استغلالها أمثل استغلال يحظى الإنسان بمكاسب كبيرة، ولو تأملنا قليلا علة صوم رمضان كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)؛ لوجب علينا أن نتساءل: هل حققنا التقوى؟ قد يمر بأحدنا 30 رمضانَ وهو لم يحقق التقوى التي جعلها الله عز وجل من حكمة الصيام؛ فمعرفة العلة تقود إلى بذل السبب المحقق له، وهذا الذي يجب أن يكون لنستفيد من رمضان. * ماذا عن البرنامج اليومي الذي تنصح بأن يقضيه المسلم في رمضان؟ سأقترح برنامجا رمضانيا؛ لعل الأسر في رمضان تحاول أن تطبق جزءا منه.. مثلا لو قلنا إن البرنامج يبدأ من بعد صلاة العصر، من خلال حلقة في المنزل بحضور كل الأفراد، يبدؤون من خلالها قراءة جزء من القرآن، وهو أمر لن يستغرق أكثر من نصف ساعة، ولو استطاعوا أن يجهزوا جزءا من تفسير هذه الآيات فسيكون أمرا جيدا. بعد الحلقة لو استطاع أهل البيت أن يتعاونوا في صنع الأطباق ومساعدة أمهم، أو ينشغلوا بمساعدة مخيمات التفطير؛ سواء بالمسجد القريب أو غيره، ثم يعودوا لتناول الإفطار مع العائلة والأسرة، ويجتمعوا بعد المغرب على إحدى القنوات الفضائية الهادفة، التي أصبحت تقدم بديلا شرعيا مناسبا للعائلة، ثم يتجهزوا كأسرة واحدة للصلاة خلف أحد الأئمة ذوي الأصوات الحسنة، ويتواصلوا بعد الصلاة مع قريب لصلة رحم أو خلافه، وبهذا يكون البرنامج الرمضاني ثريا وممتعا ومفيدا في نفس الوقت. * وكيف يمكن للأسرة أن تستغل رمضان تربويا؟ بإمكان الأسر أن تعوّد أبناءها مثلا، على الصدقة، فتأخذهم إلى بعض الأحياء الفقيرة، وهم يحملون معهم شيئا من المواد الغذائية، ليقدموها للأسر المحتاجة، ويشاهدوا بأعينهم مدى فاقة تلك الأسر؛ فهذه تربية عملية للتعرف على هؤلاء وما يعانونه، كما يمكن للأب أو الأم أن يعطي ابنه مالا ليتصدق به بنفسه على فقير شاهده؛ ليلمس هذا الأمر الجانب الوجداني فيه، والطرق العملية كثيرة ومتعددة. * لو عدنا بالذاكرة قليلا وطلبنا شيئا من ذكرياتك مع رمضان.. فماذا ستقول؟ أذكر أنني ولله الحمد بدأت الصيام منذ سن مبكرة، تقريبا في سن السادسة، وكان الوالد يحفزنا على ذلك، لكن لو سألتني عن اختلاسات الأطفال، فهي تكون في الغالب بعد صلاة العصر، حيث يبقى الوالد في المسجد، ويعطي لأبنائه جائزة يومية لمن يبقى معه في المسجد، وكنت أبقى حتى يلتفت وأحفظ وقت خروجه، فأذهب لألعب مع الصبيان ثم أعود قبل أن يلتفت وآخذ جائزتي، وكان يدعمني في ذلك أن والدي رحمه الله كان لا يلتفت أبدا إذا قرأ القرآن أو بقي في المسجد، وكنت أستغل هذه الصفة لمصلحتي! * وماذا عن ذكرياتك مع والدك رحمة الله عليه؟ في الحقيقة الوالد الشيخ عبدالله بن قعود رحمه الله، كان يعوّدنا منذ الصغر على الصيام ويكافئنا على ذلك، ويقدم لنا الحوافز المتعددة، وكان من عادته أن يقضي رمضان المبارك في جنبات المسجد الحرام بمكة المكرمة، وأذكر من مواقفه المتعددة أنه كان ينزوي عن الناس حتى لا يروه فيشغلوه. وكان إذا قرب المغرب لا يجيب أحدا عن أي سؤال، وإنما يشترط عليه أن يفطر في سفرته التي كان ينتقي فيها أطيب الطعام، ويقدمها كل يوم طوال الشهر، فكان يحتال على السائل، ويشترط عليه أن يفطر معنا حتى يجيبه عن سؤاله. وأذكر أنه كان يوجهني للبحث عن (زبائن) على حد قوله، ليكرمهم بالإفطار في رمضان، رغبة منه رحمه الله ألا يفوته أجر تفطير الصائم. * كلمة أخيرة في هذا الحوار.. ماذ تقول فيها؟ أشكركم في صحيفة “شمس” على إتاحة هذه الفرصة، وأوجه نصيحتي الأخيرة للجميع بأن يغتنموا هذا الشهر المبارك لما فيه خير لهم في دينهم ودنياهم، وتقبّل الله طاعتكم وجميع المسلمين.