من كان يتوقع أن يخرج الأمريكيون من العاطلين ومحدودي الدخل أو الفقراء في مظاهرات تندد بالبنوك وشركات البورصة وول ستريت أو شارع المال في نيويورك!. لكنها إفرازات الرأسمالية التي دفعت بالمتظاهرين لإطلاق شعارات من قبيل «الإنسان قبل الدولار» و«احتلوا وول ستريت». بالطبع ما أطرحه من اجتهاد هنا ليس مني، ولكني أتحدث عن أفكار هؤلاء المتظاهرين الذين باتت أعدادهم في تزايد، بل إنها امتدت إلى مدن أمريكية عدة، والأكثر من ذلك أن أصداءها وصلت إلى الضفة الأخرى من المحيط في مدينة لندن وأتوقع سريان العدوى إلى بلدان أوروبا، ولعل قادم الأيام تصدق توقعاتي. المجتمع الأمريكي ومجتمعات أوروبا بشكل عام كما نعلم هي مجتمعات تعتمد الرأسمالية واقتصاد السوق، تسودها ثقافة الاستهلاك والربح والفردية، ومعروف أن الإنسان بحاجة إلى قانون يحميه حتى من نفسه، وبهذا نزلت الشرائع والكتب السماوية ولكن طالما أن هذه المجتمعات هي علمانية وتفصل الدين عن الحياة، فقد اعتمدت قوانينها التي وضعتها عن طريق مفكريها وفقهاء القانون لديها وإن كانت بعض قوانينها مستمدة من النصوص السماوية إلا أن هذه القوانين لم تضع حدا للجشع وشراهة الربح السريع والفاحش حتى لو كان على حساب الكادحين والمجتمع بأسره. وقد رأينا أن أكثر ما أغضب جموع المتظاهرين الأمريكان هو هبة الحكومة الأمريكية لنجدة البنوك والشركات المالية الكبرى حين تعرضت للأزمة المالية عام 2009، وكان هذا من جيوب دافعي الضرائب، فيما نسبة البطالة في ازدياد والديون تتراكم على المواطن الأمريكي العادي الذي بالكاد يجد قوت يومه، عدا عن الطوابير الطويلة لطالبي المعونة الاجتماعية في مختلف المدن والولايات الأمريكية. التاريخ يقول لنا إن الاقتصاد هو المحرك الرئيس للثورات ويستخدم تعبير ثورة الخبز اختصارا لهذه الحقيقة، فالاقتصاد هو وقود النشاط الإنساني العام، لكن الأخلاق هي الضابط لهذا النشاط والمنظم له. لقد امتدت مطالب المتظاهرين في أمريكا لإعادة القوات من أفغانستان والعراق؛ لأنهم يرون أنها أرهقت اقتصادهم وأوصلتهم إلى حالتهم هذه. أمريكا لا تزال القوة العظمى هذه حقيقة، ولكن يبدو أنها بحاجة إلى حماية نفسها من نفسها والتاريخ أستاذ عظيم والسعيد من وعظ بغيره.