تعتبر علاقة الصداقة ربما العلاقة الوحيدة التي تمثل عقدا غير مكتوب بين الأفراد، تقطع فيها العهود وتبرم المواثيق دون ورق أو أقلام أو شهود، لكنها مع ذلك تحظى باحترام والتزام وتقدير الفرد لهذه العلاقة بصورة عجيبة لا نشاهدها في أكثر العلاقات ذات العقود المكتوبة، والمضمنة لشروط والتزامات وحقوق وواجبات المكتوبة والموقعة والمحملة بمسؤوليات قانونية أو دينية، كعقود الزواج والبيع والشراء والمداينات وغيرها. وسر هذه العلاقة الفريدة، علاقة الصداقة، هو في تحررها التام من الأسباب المؤقتة والظروف الراهنة والأحوال الزائلة، فتجد أن الرجل قد تزوج وطلق أكثر من مرتين وثلاث مرات، ولكن في الوقت ذاته، لا يزال عنده نفس الصديق من مرحلة الطفولة. كيف استطاع هذا الإنسان استدامة مثل هذه العلاقة؟ وكيف لم يتمكن مع إنجاح علاقاته الزوجية؟ ما السر وراء بقاء الأصدقاء وزوال كثير من علاقات العقود المكتوبة؟ لا شك أن طبيعة العلاقة وأسبابها ودوافعها وتنوع روافدها من أهم أسباب ديمومة العلاقة أو سرعة انقضاء أجلها، ولعل أحد أهم أسباب نجاح العلاقة هو إشباعها لحزمة كبيرة من الحاجات النفسية والاجتماعية والمعيشية، وكلما زادت شمولية الفائدة الفردية من العلاقة كان ذلك من أسباب دوامها، وكلما تقلصت روافد هذه العلاقة آذنت باقتراب أجلها، فعلاقات الزمالة والجامعة والعمل تزول بمجرد ترك العمل والدراسة والحي، ما لم تكن استطاعت تجاوز هذا الإطار وبلوغ نقطة «الشمول» في العلاقة لتتوسع إلى مناح عرضية وطولية رأسية وأفقية، فكرية واجتماعية وعاطفية، عندها تتوطد العلاقة أكثر فأكثر، وكلما عني الصديقان بعلاقتهما اشتد عودها، وتحولت من مجرد «تجربة» أو «محطة عابرة» إلى «اندماج» كلي من خلال «الاستقرار». السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يدفع صديقين منسجمين إلى هوة الفراق التدريجي؟ مساحة المقال محدودة، تمنيت الإسهاب في هذا أكثر، إنه داء «الكبر» ومرض «الاستعلاء» ورجوع «الكلفة» كأن لم يمض على هذه العلاقة أعوام.