لبعض الناس فم كبير لا يتسع لأسرار خاصة أو عامة، وهؤلاء لا يجد بعضهم قيمة للمعلومة ويتعاملون معها باستهتار أو في إطار حديث المجالس والتسلية دون إدراك لما قد تتسبب فيه من خطورة بإشاعتها، وآخرون من عادتهم ألا يكتموا شيئا عرفوه أو يعرفونه، فيما يتعمد بعضهم الإفشاء مع إدراك كامل لخطورة ذلك، لأنهم يترصدون منفعة من وراء ذلك، وفي جميع الأحوال يصبح هؤلاء خارج المظلة الأخلاقية للعمل. ويؤكد مدير «أحوال جدة» غازي البشري أن أسرار العمل معلومات لها قيمة معينة، ولا يجب أن تذهب خارج المحيط المهني لما لذلك من تأثيرات سلبية على العمل «من يفشي أسرار عمله يفتقر للمعاني الأساسية للمهنة، ويجهل الأمانة التي حملها العمل، فلكل عمل خصوصيات وقد تكون أسرارا يطلب من الموظفين حفظها وكتمها لنجاح العمل وضمان سريته» ويضيف «المحافظة على أسرار العمل من الواجبات العملية المهمة، التي لا يقبل مدير الدائرة أو الرئيس أن يطلع عليها كائنا من كان، ويفترض أن تكون هذه أمانة يؤديها الموظف لأنها من أساسيات العمل والأخلاقيات التي يحثنا عليها ديننا الحنيف». وبهذه الرؤية لا بد أن تكون للبشري فكرة عن الاحتياطات والإجراءات الوقائية الضرورية لحماية أسرار العمل «هناك احتياطات أمنية على مستوى دائرة الأحوال، ولا يمكن لأي موظف أن يفشي أسرار الدائرة كون هناك مراقبة واحتياط أمني، وأسرار العمل لا تخرج عن نطاقه ولا يجوز للموظف أن يفشي الأسرار لأحد حتى وإن كان عائلته، فمثلما يحافظ على أسراره العائلية فمن البديهي أن يحافظ على أسرار عمله باعتبار أن ذلك مسؤولية وأمانة ملقاة على عاتقه، وإلا حتما لا يستحق أن يكون جديرا بهذه الوظيفة». ولا يجد البشري غضاضة في تحميل المسؤولين جزءا من ذلك «كلما تضاعفت الأسرار، وزوّد المسؤول موظفا أو موظفين بأسرار العمل عرّض هذه الأسرار أكثر للإفشاء، فالأفضل ألا يكشف كل الأسرار العملية لموظفيه إلا من يثق بهم». في الزاوية الضيقة ويصف «ماجد.ن» مدير مؤسسة تجارية خاصة، الموظف الذي يفشي أسرار عمله بالخائن للأمانة، وليس جديرا بالبقاء على رأس العمل أو الثقة التي منحها له مسؤوله عن هذا العمل «يفترض على من يعد الخطابات ويطلعون عليها ألا يبوحوا بها للآخرين، ورغم أن الشواهد كثيرة، ولكن أستشهد بحادثة وقفت عليها شخصيا، حيث طلبت قبيل فترة من السكرتير إعداد خطاب يوجه بنقل زميلين إلى فرع آخر بمنطقة أخرى، وقبل أن يعتمد الخطاب رسميا قام سكرتير المكتب بإبلاغ أحد الزملاء المقربين منه الذي سرعان ما نقل للزميلين الخبر بأسلوب وكأن نقلهما استقصادي، بل إنه افترى علي بأنني قلت أتمنى أن يعترضا أو يرفضا لكي أفصلهما، وذكر أنه يعرف ما يدور في مكتبي من قرارات جديدة». ويستطرد «حين تسلم الزميلان الخطاب المدون فيه السبب الحقيقي من النقل وهو نقل مؤقت لسد النقص في ذلك الفرع بمنطقة مكة، وبرغم أن اختيارهما جاء لكفاءتهما إلا أنهما وافقا على مضض، ولكنهما قصرا في واجبهما العملي في ذلك الفرع، وحين تمت مساءلتهما أفصحا عن المسببات الحقيقية وحينها لم أجد وسيلة سوى تأديب السكرتير ومعاقبة الموظف بحسب الأنظمة العملية». أسرار المرضى ويشير مسؤول سابق بمستشفى حكومي بجدة «طلب عدم ذكر اسمه» إلى أنه كان يعاني الأمرين من إفشاء أسرار العمل من قبل موظفين وعاملين بالمستشفى «كانت أغلبية المراجعين والمرضى يشتكون من إفشاء أسرارهم من قبل أطباء وممرضين، وكنت لا أجد سوى ردعهم وردع مثل هذه التجاوزات بالإنذارات والحسومات» موضحا أن أبرز ما كان يفشي هي الأمراض التي كان يعاني منها البعض، لا سيما المعدية، ورغم أن السرية في مثل هذه الأمور تتطلب ذلك، إلا أنني أجد المريض يتهجم بحجة أن سره انكشف لعائلته، وكذلك بعض التفاصيل الخاصة بالمرضى والمراجعين. اعتراف والتزام أخلاقي حفظ الأسرار من الضروريات الأخلاقية والمهنية في أي عمل، ولذلك من أولويات الأمانة في العمل أن يطبق الموظف فمه حتى لو علم سرا في مقر عمله خارج نطاق وظيفته. فهد الجهني، موظف حكومي، يرى أن الموظف ملزم بالمحافظة على أسرار العمل حتى ولو لم ينص على هذا الالتزام في عقد العمل، لأن الالتزام بأسرار عمله يعتبر دلالة على أخلاقياته وأصالته وأمانته «الشخص الذي لا يحفظ السر غير جدير بالاحترام والثقة من قبل الجميع، حتى الذين يستفيدون من إفشائه لأسرار عمله، حتما لن يكشفوا له أسرارهم لأنهم يعرفون أن من لم يحفظ أسرار مسؤوله لن يحافظ على أسرار غيره». ولكن يبدو أن لزايد بن عبدالرحمن، موظف بنك رأيا آخر بتبرير إفشاء الأسرار العملية «أعتقد أن بعض الموظفين ينقلونها ليس بغرض الإساءة أو التشويه أو المنفعة، فأنا على سبيل المثال كثيرا ما أتحدث مع أصدقائي عما يحدث في العمل، ولكن بصورة حسنة ولا أقصد من الحديث أن أنتفع أو أسيء، حيث أجد في ذلك ترويحا عن النفس بتبادل الأحاديث». ويستدرك مؤكدا أنه ضد إفشاء أسرار البنك، والكشف عن حسابات آخرين، كون مثل هذه الأسرار لا يمكن الكشف عنها، ولكن هناك أسرارا عملية لا أرى أنها تضر بالجهة التي أعمل بها أو بآخرين. سر خطير إفشاء الأسرار العملية قد لا يقتصر تأثيره على إطار الحياة العملية، بل يتعدى ذلك إلى إلحاق الضرر بمستقبل الحياة العائلية، يقول بندر الغامدي، موظف في قطاع صحي «أحد الزملاء اتفق مع زميله على إعطاء فتاة تقريرا طبيا، وفعلا منحها، ولكن هذا الزميل فضح أمره وأفشى سره للمدير الوظيفي الذي حسم عليه وعاقبه، وبرغم تأسف الزميل له عن العقوبة الإدارية العملية إلا أن الاعتذار لم يكن مجديا أو مفيدا، حيث رد عليه وجاء الرد عائليا حين أفشى سر زواجه بالمسيار لزوجته، حيث اتصل بمنزل زميله وأخبر زوجته بأنه متزوج من أخرى، وبحسب ما نقل لنا إن زوجته بسبب زواجه بالمسيار انفصلت عنه». كسب الولاء لأحاديث المجالس والأسرار دوافعها النفسية، وأبعادها الاجتماعية التي يوضحها الباحث والاختصاصي الاجتماعي محمد رضا على «إفشاء الأسرار العملية من ظواهر الانحراف الوظيفي، وهي تعبر عن خلل في التزام الموظف بأخلاقيات المهنة التي يعمل بها، وخلل أيضا في طبيعة الالتزام بينه وبين الجهة التي يعمل بها، حيث إن العقد شريعة المتعاقدين، وتنتشر هذه الظاهرة في القطاعات المالية والإدارية باعتبارها أكثر القطاعات حساسية». وعن تأثيرها على بيئة العمل «تؤثر هذه الظاهرة على بيئة العمل بشكل كبير، حيث تنشأ العداوات والمنافسات غير الشريفة بين أصحاب المستويات الوظيفية الواحدة والمؤسسات والهيئات صاحبة التخصص الواحد، وقد تنشأ عنها كثيرا الظواهر الأخرى مثل كثرة التشهير والتجريح بين الأشخاص والمؤسسات والهيئات، انتشار ظاهرة الرشوة وشراء الذمم بسبب حرص كل طرف على الفوز بمعلومات وأرقام من المرضى بهذا المرض، كثرة جرائم الفساد الإداري بسبب المنافسات غير الشريفة التي تنشأ عن ذلك إفشاء الأسرار، انعدام أخلاقيات المهن المختلفة وتحولها إلى ساحة لعب بالمعلومات وتحول المهن إلى بيئات انتهازية». المسؤولية الجنائية لإفشاء أسرار العمل وجهها القانوني، الذي قد يصل حد الجرم لما يترتب عليها من مخاطر وأضرار على العمل، وذلك ما يوضحه المحامي صالح بن مسفر الغامدي «تعتبر المحافظة على أسرار العمل من الواجبات الملقاة على عاتق الموظفين، سواء كانوا يعملون بالقطاع الحكومي أو الأهلي، فبغض النظر عن طبيعة العمل أو أهمية أي وظيفة عامة أو خاصة فإنها لا بد أن تتضمن من المعلومات والبيانات والوثائق الشيء الكثير، الذي لولا شغل الموظف لها لما أمكنه الاطلاع على كل المعلومات والبيانات والوثائق التي قد يكون من بينها العديد من الأسرار المهمة. مبدأ حسن النية وعن العقوبة التي تصدر بحق الموظف الذي يفشي أسرار عمله «حددت المادة (65) من نظام العمل والعمال السعودي واجبات العمال، منها أن يحفظ الأسرار الفنية والتجارية والصناعية للمواد التي ينتجها أو غير مباشرة، وجميع الأسرار المهنية المتعلقة بالعمل أو المنشأة التي من شأن إفشائها الإضرار بمصلحة رب العمل». ويستطرد الغامدي «الالتزام بحفظ الأسرار أمر يقتضيه مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود وواجب الإخلاص والأمانة في علاقات العمل، ولم يعرف نظام العمل والعمال أسرار العمل تعريفا جامعا مانعا وإنما اكتفى بوصفها بالأسرار الفنية والتجارية والصناعية والمهنية، وقد حددت المادة (80) من نظام العمل السعودي «يحق لصاحب العمل فسخ العقد دون مكافأة أو تعويض أو إشعار سابق إذا ثبت أن العامل أفشى الأسرار الصناعية أو التجارية الخاصة بالعمل الذي يعمل فيه»، وطبقا لقواعد المسؤولية المدنية يحق لصاحب العمل مطالبة العامل بالتعويض عن أي ضرر فعلي لحق به جراء إخلال العامل بهذا الالتزام ويؤدي إلى أحقية صاحب العمل في فصله من عمله دون أي التزام عليه بدفع المكافأة أو التعويض المقابل لخدمته لديه. وعن اختلاف العقوبة بين المسؤول وموظف قال: لم يفرق النظام بين المسؤول والموظف من ناحية إفشاء الأسرار التي تحت يده وإنما جعل العقوبة واحدة على كل من يفشي أسرارا تتعلق بحكم بوظيفته». أسرار مصرح بإفشائها هناك أسرار محظور نقلها من الدائرة الحكومية ويعاقب عليها القانون بشدة، وأخرى يمكن أن يفشيها الموظف، يحددها الغامدي «تلك الأسرار المتعلقة بنشاط الجهة الإدارية أو المؤسسة الأهلية، كما أنها قد تتعلق بالمصلحة العامة للدولة أو مصلحة المجتمع، ومن تلك الأسرار الخاصة المتعلقة بالعمل مثلا الأسرار بالأنشطة السياسية والعسكرية والأمنية، فالموظف الذي يدلي للصحافة بمعلومات غير مصرح بنشرها أو يحتفظ بأصول بعض الأوراق الرسمية، يعتبر مخالفا لواجب المحافظة على الأسرار الوظيفية، ومراعاة مصلحة المواطن بتلافي ما يؤدي للتأثير السلبي على سمعته أو التشهير به». أما بالنسبة إلى الأسرار التي لا يعاقب عليها الموظف «أولا: إذا سمحت الجهة المعنية التي يدخل السر ضمن نشاطها بإفشائه ويتم ذلك في الغالب عندما يستنفذ السر أغراضه أو يصبح شائعا بين الناس، ثانيا: إذا كان إفشاء السر يؤدي إلى منع ارتكاب جريمة، ثالثا: إذا وافق الشخص الذي أصابه الضرر من إفشاء السر على إفشائه، رابعا: إذا كانت مصلحة العمل تتطلب إفشاء أي من الأسرار كأن يتم ذلك من خلال المناقشات التي تتم بين الرؤساء والمرؤوسين أو عندما يتم تدريب موظف جديد».