هل تتساءلون: لم «تسرق» الشركات المحلية الكوادر القيادية الوطنية من شريحة ضيقة من الجهات، وأعني بها المؤسسات متعددة المنشأ أو الهوية؟ فعدد غير بسيط من قياديي البنوك والمصانع وشركات التأمين والاتصالات والطيران والتقنية السعودية جاؤوا من مؤسسات محددة لا تتعدى ال30 حصرا. بل إن الكثير من رواد الأعمال السعوديين الذي لمع نجمهم حديثا هم ممن تركت فيهم تلك المؤسسات بصمتها. والسبب بكل بساطة أن هذه المؤسسات متعددة المنشأ هي بطبيعتها مصانع لإيجاد الكوادر المحلية أينما حلت بالعالم، بينما يفضل كثير من الشركات السعودية استقطاب كوادرها القيادية الوطنية «جاهزة» بدلا من الاستثمار في بنائها من داخلها عبر إيجاد برامج طويلة ومتوسطة المدى وتوفير البيئات المناسبة لتنميتها. وحتى حين وجدت برامج تطوير الكوادر القيادية وروح ريادة الأعمال «في بعض الشركات المحلية، فإنها قلما ارتقت لمستويات برامج عالمية صقلت عبر تنفيذها حول العالم وعبر ثقافات وأزمنة شديدة التنوع». اليوم وبعد نهاية الموجة التاريخية الثانية من الطفرة الاقتصادية «وقد تليها أخرى عما قريب بسبب استمرار الطفرة النفطية ولا أدري إن كان الاقتصاديون يعدونها واحدة أم اثنتين» فإن من أهم التغييرات التي تشهدها سوق العمل تتمثل في هجرة الأعداد غير البسيطة وفوق المعتادة من كوادر الشركات الأجنبية للشركات المحلية. وكان العامل الأساسي هو ازدهار قطاعات جديدة من عقار وتأمين واتصالات وغيرها، والتي أوجدت حاجة ملحة وفورية إلى كوادر قيادية وطنية. وقابل الشح في هذه الكوادر طفرة في أجور الوظائف القيادية التي لم تتمكن الشركات الأجنبية متعددة المنشأ من مجاراتها. ولا ألومهما.. فمهما حاول مديرو تلك الشركات تلبية المعطيات المحلية، فإنهم لا يسعهم التغاضي عن المعطيات العالمية، كضرورة مراعاة التوازن في الأجور التي تدفع سواء على المستوى العالمي أو الإقليمي. ولا ننسى أنهم يدفعون ثمنا دائما ما يتم نسيانه عند مقارنة الأجور وهو استثمارهم في التدريب والتطوير الذي أشدنا قبل أسطر بنتيجته الملموسة الذي يقابله قيمة فعلية تدفع بالشركات المحلية للحصول عليه «أي الكادر الوطني القيادي». غايتي من سرد هذا كله هو أن هذه الشركات المتعددة المنشأ صرفت نظرها اليوم عن التوطين الأعمى للوظائف القيادية «كما كان حالهم قبل بضعة أعوام إيمانا منهم بأن الطريقة الوحيدة للنجاح المستديم في أي سوق هو بإيجاد كوادر من نفس جنس السوق» فبدلا من ذلك، صارت هذه الشركات تسعى لإيجاد توازن عن طريق استقطاب ثم تدريب وتطوير كوادرها من الجنسيات الأخرى المتواجدة في المنطقة دون التركيز على الكادر المحلي. وفي بعض الحالات، فضلوا نقل إداراتهم الرئيسية لخارج المملكة عوضا عن خوض المنافسة في سوق العمل المحلية. وفي كلتا الحالتين خسرنا منبعا ولو جزئيا لكوادر قيادية وطنية! إذا أثبتت سوق العمل نجاح سياسة هذه الشركات المتعددة المنشأ في تدريب الكوادر السعودية المؤهلة لتولي مناصب قيادية في شركاتنا المحلية بمختلف أحجامها وطبيعة أعمالها، وبالتالي دفع عجلة الاقتصاد للأمام، فلم لا تتقدم حكومتنا بدعم الشركات المتعددة المنشأ وحثها عبر تغطية تكاليفها ولو جزئيا؟ لم لا ترد لها رواتب آخر سنة أو سنتين لكل قيادي وإداري سعودي يتركهم لشركة محلية؟ لم لا تبحث لسبل تغيير المعادلة الاقتصادية التي جعلتهم يترددون أمام الشاب السعودي حتى فضلوا في بعض الحالات دفعه لسلم وظيفي فني بعدما كانوا يتسابقون في إعداده لأعلى الوظائف الإدارية؟ يمكننا وضع كل الضوابط اللازمة والتشريعات المناسبة لمنع سوء الاستغلال أو أي أضرار ثانوية للاقتصاد. لكن تخيلوا النتائج بعد ثلاثة وخمسة أعوام لو طبقنا برنامجا بهذه الروح؟ مجلس الوزراء أعلن قبل فترة عن برنامج مواز لبرنامج خادم الحرمين الشريفين للبعثات الخارجية، حيث وبعد ابتعاث عشرات الآلاف من شباب الوطن الغالي إلى شتى بقاع العالم؛ ارتأت حكومتنا أنه آن الأوان لمنح فرصة مشابهة للطلاب الذين اختاروا تحصيل تعليمهم في قلب المملكة عن طريق برنامج المنح الدراسية الذي يتكفل بنصف إلى كامل رسوم الطالب في الجامعات والكليات الأهلية. وطبعا قبل هذا تم تمديد برنامج البعثات الخارجية لخمسة أعوام أخرى. المملكة اليوم تجلس على تركيبة شابة لتعدادها السكاني. فكل جيل يقارب سن التقاعد يتبعه جيل أكبر في العدد شادا عباءة الاقتصاد باتجاهات جديدة لم تخطر للجيل الذي سبقه، من ذلك القطاعات الخدماتية والتقنية التي كانت حكرا على الأجنبي المحنك وأصحاب رؤوس المال الجاهزة. إلا أن عباءة اقتصادنا المحلي لم تحتمل المد والشد وضاقت بالكثيرين الذين قرروا إكمال مسيرتهم العملية خارج المملكة. وهناك من لم يجد مكانه في الاقتصاد المحلي، ولم يسعه الهروب لاقتصاد خارجي. وهذه الفئة قد نختلف في تعدادها وقد نختلف في تسميتها، لكن كل متابع لسوق العمل السعودية مدرك تماما أن عددهم في ازدياد سريع جدا. ويشير الإعلام المحلي والعالمي لهم ب «العاطلين» وكأننا نريد بالتسمية أن نلومهم وكأنهم تقاعسوا عن شيء. إنه حلم كثير من الحكومات الأخرى بأن تحصل على تركيبة سكانية مشابهة للمملكة. فتلك الدول تعتمد على استيراد المهاجرين لسد حاجتها من الأيدي العاملة والعقول المفكرة في ظل انخفاض نسبة النمو السكاني عن نمو الوظائف. كما أن عزوف مواطنيها عن بعض الوظائف لانعدام رغبتهم فيها أو قدرتهم عليها يزيد من حدة العجز. بينما المدهش أنه في مملكتنا، فالتركيبة السكانية الشابة كابوس يهدد الاستقرار. فكل عام تخرج مدارسنا جيوشا من الشباب والشابات متعطشين للمزيد حتى عجزت جامعاتنا عن المواكبة. فأوجدت فروعا ثانوية لها ودخل القطاع الخاص وأوجد كليات جديدة، ثم بدأ برنامج الابتعاث للجامعات الخارجية والآن للجامعات الأهلية بالداخل. اليوم وبعد بضعة أعوام من برنامج الابتعاث، بدأ نوع جديد من العاطلين في الظهور: وهم حاملو الشهادات الجامعية! لا أقصد خريجي جامعاتنا المحلية – فهؤلاء فئة نراها بين أهالينا وزملائنا منذ زمن. من أقصدهم هم حملة الشهادات الجامعية من خارج المملكة، وهذا مبرر كرهي لوصف «عاطل عن العمل». فبعد أن هجر ابن بلدنا الأهل والديار، وتأقلم مع مجتمع جديد، وظفر بوصفة العمر التي كتبها له النظام الأكاديمي والعرف العالمي، بعد هذا كله نجده عاطلا عن العمل؟! طبعا تراكم هؤلاء أثر في سوق العمل، حيث أدى لهبوط متوسط أجور الموظفين في الوظائف الدنيا «أي التي لا تعتمد على خبرة سابقة وهي التي عادة ما يتنافس عليها حديثو التخرج». وهذه بعض آثار الفائض في العرض «الباحثين عن عمل» والشح في الطلب «وظائف شاغرة أو جديدة» في سوق العمل. إلا أن الأمر زاد على هذه الظاهرة الطبيعية، حتى أن المقبلين على الوظائف مؤهلون أكاديميا لما هو أسمى، لكنهم يقبلون بالأدنى هروبا من عار مسمى عاطل، أو سعيا لأي دخل يمكنهم من الاستمرار في الحياة. عندنا أصبحت الشهادة الجامعية شرطا لوظائف تعارف العالم بأن أي هاو ومبتدئ كفيل بالقيام بها مع شهادة ثانوية تثبت بأنه قادر على الحساب والكتابة، وأصبحت الشهادات العليا لا تفي إلا بلفت انتباه مديري التوظيف قبل أن يقرروا من سينال شرف المقابلة الشخصية! أين الخطأ في هذا النظام؟ أو ليست الشهادات العالمية مقياسا لكفاءة شباب أي أمة؟ في رأيي المتواضع، الإشكال هو في محاولتنا إيجاد مجتمع من حاملي الشهادات العليا. نسينا أن الهدف الأساسي كان نقل اقتصادنا من اقتصاد يعتمد على البترول لاقتصاد علمي معرفي بعد أن يعتمد على الصناعة والتصدير كمرحلة أولى. لكننا لم نعمل على توفير البيئة المناسبة لهذا التغيير في الاقتصاد أو لتحفيزه على التغيير. بالعكس! تغاضينا عن اقتصادنا الحالي بسوق عمله التي تئن تحت وطأة الأجنبي، «وأقصد بالأجنبي هنا، المهاجر الاقتصادي الذي جل همه هو تحويل أكبر جزء من دخله للخارج قبل أن يترك هو بنفسه المملكة. ولا أقصد إخواننا المقيمين الذين هم من قوامة البلد وعمرانها بفضل استثماراتهم وعملهم وانخراطهم الحقيقي في المجتمع»، فانبهرنا بمقدرته على القيادة والريادة، ثم نسينا أننا لم نستقطب هؤلاء الأجانب لشهاداتهم ولكن لخبراتهم. وكانت النتيجة أننا لا نزال نحاول جاهدين لأن يحصل شبابنا على تنشئة أكاديمية من نفس أوطان هذه الكوادر الأجنبية ظنا منا أنها هي السر في قدرة هذه الكوادر. والنتيجة الفورية لجميع برامج الدراسات العليا هو حصولنا على دكاترة في مناصب سكرتارية ومساعدي التنفيذيين، ومهندسين في وظائف فنية يدوية، وخريجي جامعات في خدمة العملاء في محال التجزئة، «التعميم من باب المبالغة فكما قابلت شخصيا هذه الأمثلة فقد قابلت أمثلة معاكسة تماما من ناحية المردود الاقتصادي للمبتعث أو الخريج». هل أنا مخطئ في أمنيتي بأن يتم تحويل جزء من هذا الاستثمار العظيم في التعليم العالي إلى استثمار في التطوير القيادي والريادي؟ حاتم الكاهلي عن مدونة: إحسان فقيه