هناك في ركن قصي من الذاكرة، يعيش مكان ما.. يستوطن أرواحنا وتألفه أفئدتنا رغم ارتحالنا عنه زمنا طويلا.. فما الحديث الذي يبعثه استرجاع هذا المكان إلى حيز الكتابة؟ وأي الهواجس يثيرها بحزنها وسرورها؟ ما الذي نعرفه عنه ولا يعرفه سوانا؟ كان بيتنا كبيرا - أو كنت أظنه كذلك- بقياس ذلك الزمان الذي تتنامى بركته في كل زوايا عمرنا. بيتنا هذا له من السمات ما جعله فردوس الدنيا: أسرة سعيدة، والدان كريمان، إخوة وأخوات متآلفون لدرجة تعظم على الخيال، ناجحون ومتميزون، صحة وسعة رزق، جيران وأهل وأنساب وأقارب كلهم طيبون، وأيام فرح وزهو ونعمة رافقت مراحل عمرنا. وبيتنا هذا عظيم لا لأنه يكتسي بتلك السمات الروحية بل لأنه اكتسى بسمات روحانية رائعة لا يضاهيها أي فردوس في هذه الدنيا مهما بلغ جماله وقدسيته.. بيتنا هذا كان على سفح جبل أبي قبيس بواجهة الصفا، يطل من جميع زواياه وأركانه على بيت الله الحرام وكعبته المشرفة، بواباته العديدة، مناراته الشاهقة، أفئدة البشر، وبياض ملابسهم يؤمونه في كل حين، البيت الذي لا يقفل أبوابه، ولا تهجر ساحاته وطوافه ولو للحظة واحدة، نغمض أعيننا عندما نهجع إلى النوم وتظل صورته الوضاءة بكل تفاصيلها في مهجتنا، في ذاكرتنا، وتتسلل إلى أحلام نومنا، ونفيق على صوت الأذان. هذا البيت العامر بالحب والروحانية، بيتنا الكبير يلتحم صفاؤه مع صفاء بيت الله الحرام. وقع أقدام والدي - رحمة الله عليه - وهو يحث الخطى بطمأنينة إلى المسجد الحرام، مستضيئا بنور إيمانه في الصعود والنزول لدرجات صفت بالأحجار فوق التراب الطاهر بلا ترتيب، ما زلت أسمعها وأنا أرقب اليوم تلك المصاعد والدرج الكهربائية تنقل ساكني الديار برفاهية وفخامة. بهجة العيد هذه ما زال نبضها في قلوبنا كلما جاء العيد، وأنا في مكة أرفع رأسي فأرى أطلال صورة بيتنا بينما أطوف في البيت الحرام أو أخرج منه فأكفكف دموعي. ذلك البيت الحبيب ألا يستحق أن يظل شامخا في ذكرياتي وتاريخ حياتي في قلبي وخيالي وحديثي وأحلام نومي؟ يوم رحلنا عن هذا البيت، بيت الصفا، بدرجات الجبل العالية التي توصلنا إليه، كنا ندرك تماما أنه لن يعوضنا عنه قصر منيف ولا حديقة غناء تحفه ولا نهر جار. ذلك البيت الحبيب حتى وإن اقتلعت أساساته وتفرقت حجارته الكبيرة التي بنت قواعده وجدرانه، وكسرت أخشاب أسقفه التي كان الثعبان الضخم يمر بين ثناياه ونحن نصرفه بآيات وذكر. أقول كنا ندرك تماما أن هذا البيت وقد تعاقب عليه أجيال من أهلي لن ينمحي تاريخه عندي وعندهم. ليس هناك من بيت قد يخلد كما خلد بيتنا الكبير هذا، ظل شاهقا في ذكرياتنا وساطعا في قلوبنا، الطريق إليه مدخله ودهليزه، المقعد والديوان والصفة والمجلس والخارجة والسطوح والطيرمة والخزانة أسماء ربما لا يعرفها إلا أهل مكة وما يجاورها، وبيتنا ربما لا يعرفه إلا من يعرفنا ولكنه يزهو شامخا في التاريخ.