كان علي أن أخلع بنطلون الجينز والقميص، وأرتدي الثوب وأضع الغترة الحمراء والعقال على رأسي حسب أوامر السيدة التي رأت أن ظهوري باللباس المحلي يمنحني شيئا من الهيبة ويحد من فضول الكثيرين خاصة الشباب الذين لا شغل لهم إلا المعاكسات؛ فما إن يرى الواحد منهم سيارة فيها شبح امرأة مع سائق أجنبي حتى تبدأ سلسلة من المماحكات والمضايقات تنتهي بمطاردة أو بتدخل من قوى الأمن أو رجال الهيئة. في البداية شعرت بشيء من الضيق، خاصة من الغترة والعقال اللذين يحتاجان إلى ضبط بعكس الثوب المريح، ولكن مع الوقت اعتدت ذلك، كما لاحظت أن الإزعاج والمضايقات خفت بكثير، بل كادت تنعدم بفضل تطبيقي الصارم للتوجيهات، وبعد أن ألزموني بإطلاق لحيتي وتشذيبها كما يفعل الرجال العصريون في هذه المدينة. بنات السيدة يقلن: لا تلتفت كثيرا حتى لا يعرفوا أنك أجنبي من سحنتك الصفراء وملامحك الآسيوية.. والحقيقة أنهن معذورات في خوفهن وتحفظهن لأن المضايقات لا تحتمل، ولو كنت في بلدي، وتعرضت لمثل ما أتعرض له هنا لدخلت في معارك كثيرة ودامية مع هؤلاء الشباب التافهين. تمضي حياتي رتيبة ومملة وقاسية، وأقسى ما فيها الانتظار: انتظار المدام.. انتظار البنات.. انتظار الأولاد.. في الأسواق.. عند أبواب بيوت الأصدقاء والأقارب وعند أبواب المدارس وفي كل مكان.. مشاوير لا تنتهي. أمرتني السيدة أن أجهز السيارة وأكون على أهبة الاستعداد لمشوار جديد، أي مشوار لا يهم حتى لو كان إلى الجحيم، المهم أن تسلم الورقتين الزرقاوين في نهاية الشهر دون أن ينقص منهما ريال واحد. أقبع في مقعد السيارة الفخمة المريحة، أفتح الدرج وأخرج شريطا لمغن شعبي من مدينتي البعيدة.. أضعه في جهاز التسجيل ثم أسرح في عوالم بعيدة لا تشبه عالمهم، حتى تخرج السيدة أو إحدى الآنسات. وكثيرا ما ينتهي الشريط قبل أن يخرجن، وما علي سوى الانتظار المرير الذي ألفته ووطدت نفسي عليه، بعد أن أدركت أن من لا يقوى على الانتظار الطويل لا يصلح أن يكون سائقا لعائلة. أسرح في عالم أخضر، مغسول بمياه صافية لا يشبه غبار هذه المدينة.. أتمعن صورة طفل جميل يتهادى حاملا حقيبته المدرسية، أحيانا تنقلب هذه الصورة إلى مشهد بشع ومرعب؛ سيارة مسرعة وطفل يحاول عبور الشارع.. ارتطام.. جسد غض يعانق الإسفلت.. قطرات دم.. أصرخ: لا لا لا لا.. ولكن لا أحد يسمعني، والسيدة لا تخرج.. فأعود إلى حلم جميل حتى تخرج. أستعيد بعض اللحظات الجميلة قبل أن يجيء صوتها حادا وصارخا: حرك يا.. حرك.. لا أسمع منها غير هذه العبارة حرك يا.. إذا كانت راضية تتبعها باسمي أو ولد، وان كانت غاضبة، أو عكرة المزاج تقول: حرك يا ح م ا ر!. لا أحد يكلمني هنا.. لا أسمع غير الأوامر.. أشعر أحيانا بأني مجرد آلة، كجهاز التليفزيون الذين يتنقلون بين قنواته ب«الرموت».. لا أحد يحادثني.. أنا سائق صحيح، ولكني إنسان.. هل يدركون ذلك؟ أحيانا وفي لحظات كهذه أشك في إنسانيتي. يظهر وجه الحبيبة البعيدة ضاجا بالدموع ومختنقا بالكلمات المستجدية: لا ترحل.. أجل السفر حتى يكبر ابننا.. أقول لها: أنا أسافر من أجله.. حتى يكبر ويتعلم. ولولا الحرص على تعليمه وتهيئته لمستقبل أفضل مما أنا فيه ليعيش حياة كريمة لما احتملت فراقها، ولما تحملت أهوال الغربة وهذه الوحدة والوحشة والغبار. يعود صوت السيدة الآمر: أسرع يا.. الرياض مدينة كبيرة، شوارعها فسيحة ومع ذلك مزدحمة بالسيارات.. أشعر بأن السيارات أكثر من الناس في هذه المدينة المخيفة. لا أجرؤ على السرعة أو حتى الانتقال من مسار إلى آخر، أخشى ألسنتهم السليطة، ولذلك أقود السيارة بحذر ووجل رغم أوامر السيدة الصاعقة التي تريدني أن أسرع هذه المرة. يغادر الشارع العام إلى داخل الحارة.. يأتيه صوتها موجها؛ يمين، يسار، على طول بس وقف هنا.. تنزل من السيارة.. وما هي إلا لحظات حتى يفتح الباب وتغيب داخل المنزل. أضع يدي على الشريط، يرتفع صوت المغني.. أتذكر البلاد البعيدة، والسيدة البعيدة.. أثني المقعد إلى الخلف، أسرح هناك مع الماء والخضرة والوجه الحسن؛ وجه الصغير وبيتي الصغير.. طال مقام السيدة؛ ثلاثون دقيقة، خمس وأربعون دقيقة، ساعة كاملة.. أغمض عيني مستسلما لإغفاءة لكن باب الفيلا ينفتح. تخرج السيدة، تفتح الباب الخلفي تلقي بجسدها على المقعد ثم تصرخ: تحرك يا.. تحركت، وإذا بسيارة مسرعة قادمة من الخلف، حاولت تحاشيها بالالتفاف يمينا في حين ضج الشارع بصرير كوابح تلك السيارة.. نزل صاحبها؛ شاب لم يتجاوز ال18، صاح بي هو الآخر: «يا حمار.. ما تشوف الطريق.. كدت تعدمني.. لولا السيدة التي معك لأريتك ماذا أفعل بك». ثم ركب سيارته بانفعال وعجلة وانطلق مخلفا وراءه سحابة من دخان وغبار.. كانت السيدة صامتة كعادتها.. ترى بماذا تفكر؟ ماذا يدور بخلدها؟ كيف ينظرن إلى الحياة؟ يا للقوة والجبروت.. كيف يحتملن هذا الصمت القاتل؟! تظل الواحدة منهن قابعة في ركن مظلم بلا صوت ولا حركة.. إنه الفراغ.. الموت.. لا أعتقد أنهن كذلك في المنزل، ربما يأخذن نصيبهن من الثرثرة هناك، فيمسكن عن الكلام خارجه، أدري أني في نظرهن مجرد شيء، ومن الجنون الحديث إلى الأشياء!. أبواق السيارات تعلو، ومكيف السيارة لا يجدي مع هذا الجو الخانق، أحس بالاختناق.. أفك أزرار الثوب، أشغل الشريط، يرتفع صوت المغني، فأرفع الصوت إلى آخر مداه.. المرأة القابعة في المقعد الخلفي لا تقول شيئا. أفتح زجاج أبواب السيارة الأمامية، لا تنبس ببنت شفة، ولا يتحرك منها شيء كالعادة.. أنزل زجاج جميع الأبواب الأمامية والخلفية، لا تقول شيئا، ولا تفعل شيئا.. أصرخ فيها هذه المرة وبجنون: ليش إنت مافي كلام؟! وما كدت أنهي جملتي التي لا أدري كيف خرجت، حتى صاحت به: «عمى يعميك يا قليل الحيا» ثم وقع شيء صلب على رأسي، اهتز له بدني كله.. تداخلت الصور في المخيلة: الخضرة، الجفاف، الغبار، الماء، الولد، الزوجة، الشيء القابع في الخلف.. الكعب العالي المنغرس في الرأس.. الدماء التي تنهمر وتغطي الوجه الأصفر.. شعرت بالدوار.. كدت أسقط لكني تحاملت فانحرفت السيارة قليلا عن مسارها، تصادف قدوم سيارة مسرعة من الخلف، حاولت تفاديها بالرجوع إلى المسار، لكنني ارتطمت بسيارة أخرى قادمة من الخلف.. التحمت السيارتان بالحاجز الخرساني الفاصل بين الاتجاهين، وسالت الدماء من جسدي الملتصق بمقود السيارة، ومن الجسد الآخر المغطى بالمقعد الخلفي. «بعد أيام كان عدد من أبناء جلدته يتابعون إجراءات نقل جثمانه إلى البلاد البعيدة» عبدالله العرفج