كتاب جديد للباحث الأستاذ محمد بن زيَّاد الزهراني أحاديث في الأدب الشعبي أطايب القِرى من أدب القُرى بقلم : عبد الرحيم الأحمدي كتاب جديد للباحث محمد بن زياد الزهراني، دعاه أطايب القِرى من أدب القُرى: قراءة لجوانب مضيئة من تراث زهران وغامد (منطقة الباحة)، يقع في مائتين وتسعين صفحة 17×24 سم، ويبدو أن الكتاب بداية سلسلة متتالية يعتزم الكاتب إصدارها عن تراث المنطقة، حيث وضع على غلافي الكتاب الخارجي والداخلي عنوانا آخر هو: قريتنا القديمة. ويجب علي في البداية شكر الباحث القدير على إهدائي هذا الكتاب ومجموعة أخرى من الكتب الأدبية، التي تدل على أننا أمام أديب مبدع وباحث قدير، ويجب علينا أيضاً أن نشكره على تقديمه هذا القرى الدسم، الذي نحن في أمس الحاجة إليه، ليس لأنه يوثق تراثا لم يدون فحسب، وإنما لأن هذا التراث يصل الماضي بالحاضر، وينصف الأجداد بأنهم ليسوا كما يشاع عنهم بأنهم أمة جاهلة لا هم لها سوى الغزو والاعتداء والسلب والنهب، وأنها خالية الوفاض من الفكر وإنتاج العقل بل هي أمة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق التي تميزت بها، وأنها أمة تعيش في أرض الحضارات ولها اسهامات كثيرة فيها. ويتميز المنهج الذي اعتمده المؤلف بمناهج الدراسات والبحوث من حيث التوثيق وشرح المفاهيم ورد المفردات العامية إلى أصولها في الفصحى إضافة إلى تعزيز مواد الكتاب بشواهد من التراث الثقافي من الفصحى وغيرها شعراً ونثراً وأحداثاً، مبتعداً عن العاطفة التي تنحو إلى الذاتية والعصبية التي تبهت العمل وتصرف عن المصداقية فيه. كما يتميز برهافة الحس الأدبي والثقافة الواسعة. وقد جاء محتوى الكتاب في سبعة فصول من أبرزها : مشاعر إيمانية متدفقه، الخطابة تقليد فريد. ضوابط اجتماعية. فكر مع فكر. شاعرات في الظل. مختارات من الحكم والأمثال في أشعار زهران وغامد. هذه الموضوعات وغيرها مما ورد في الكتاب قدمها المؤلف وجبة غنية بالمعارف والفكر والتجربة تتحدث عن المجتمع عاداته وأساليبه في التربية والتنظيم والضوابط الاجتماعية والعلاقات التي تقوم بين الجماعة والجماعات الأخرى التي يربط بينها جوار أو تجارة أو مرور، أو تحدث بينهم حروب، فالجماعات في الماضي قبائل تضيق الروابط فيما بينها وتتسع، ويترتب على ذلك ما يترتب على الولايات والدول، إذ لا دولة تملك السيطرة على القبائل، ولا ممثلون لها يؤدون أدوار الحاكم، والناس يدركون معنى التنظيم الذي يحقق لمجتمعهم الاستقرار، ولمن يجاورهم من القبائل الأخرى حسن الجوار وتبادل المصالح فيما بينهم، وفق نظم وقوانين وضعوها وأقروها بعد أن وجدوا فيها ما يحقق لهم حياة تحفظ حقوقهم وتحمي أخلاقهم، وبقوة التطبيق حققت هذه القوانين الوضعية حماية للضعيف وتقلبا في الحياة في ظل قوانين الضبط الاجتماعي المشكلة من تعاليم الدين الإسلامي، ومن قيم المجتمع التي تمثل قوة تهاب وتحترم من قبل الجميع، وهذا لا يعني سلامتها من الاختراقات من قبل ذوي النفوذ في المجتمع ولكنها تخفف من حدة الجور والتسلط في مجتمع لا تحكمه دولة قادرة على شمولية الرعاية وسرعة الوصول إلى المناطق الوعرة والبعيدة عن متناول يد سلطانها. والمعروف أن أقاليم الجزيرة العربية متباعدة وصعبة المسالك ولم تنشأ فيها دولة كما هي الحال اليوم، ولكن الناس كانوا يحجون ويعتمرون ويزورون وينجعون وراء العشب والكلأ إذا لم تمطر بلادهم، والقبائل تتفاوت قوة ومنعة، وتقوم بينها أحلاف تزيد من منعتها، وتضفي على من يتمتع بهذه الميزات شعوراً بالأمن والطمأنينة، ما قد يدفعه للتمادي والظلم والاعتداء ما لم يكن لديه وازع من دين أو خلق. ولذا سعى العقلاء من القبائل بعامة والجماعات بخاصة لتنظيم العلاقات فيما بين هذه الفئات دفعاً للأضرار التي تلحق بهم من التجاوزات وتحقيقاً للمصالح العامة التي تشمل كل الأطراف. وقد أورد المؤلف جانباً من ذلك من تراث زهران وغامد في هذا المجال، فعند التنقل بين بلاد القبائل يجب تقديم تعريف عند اللقاء وإلا تعرض أحد الطرفين لخطورة عدم معرفته من قبل الآخر، ثم إن التعريف عند اللقاء من الآداب بدء من السلام وانتهاء بالتوديع، ويشمل التعريف أيضاً الأخبار عن بلد القدوم وأهلها وأحوالها والأسعار فيها والأمطار، ولا يخرج الرد عن هذه المعلومات والدعوة للاستضافة فإما القبول أو الاعتذار، ويحول التعريف عن الاعتداء طوال المرور بديار القبائل الأخرى ما تم التعريف أو المصاحبة من قبل أحد أفراد القبيلة. وقد أمتع المؤلف في هذا الجانب وجانب الضبط الاجتماعي لدى الجماعة الواحدة. وبما أن مادة الضبط الاجتماعي من المواد المقررة في جامعاتنا إلا أنها لا تتطرق إلى تجربة مجتمعاتنا هذه، مقتصرة على النظريات الغربية والتجربة المدنية، وما أورده المؤلف عن تراث منطقة الباحة له مثيل في كل مناطق الجزيرة العربية إبان اضطراب إلا من فيها، وقد تلتقي النظم لوحدة أهدافها لاختلاف مقوماتها الاقتصادية، وهذه النظم منها ما ينظم الزراعة رياً وسقيا وزكاة ورعياً. وقد شرع كثير من المؤلفين بالتأليف في هذا المجال مع تفاوت في المنهج والطرح والتقصي، وقد آن الأوان أن تنهض جامعاتنا بجمع هذا التراث ودراسته وتدريسه في الجامعات فهو نتاج تجربة فكرية، وحلول لمشكلات تعترض حياة المجتمعات في فتراث غابت عنها الإدارة الواعية الشاملة، وشاعت الأمية، ولم يكن أمام هؤلاء المنظرين الذين وضعوا هذه الأنظمة والقوانين غير اشغال الفكر وتوثيق هذه الأنظمة بالقول لا التدوين والتوقيعات ولكنها نالت الالتزام والاحترام طوال فترة ليست بالقصيرة حتى هيأ الله للبلاد هذه الدولة الرشيدة. أما الجانب الأدبي في الكتاب فإنه لم يغب فصيحه وشعبيه، وشعره ونثره، أينما وجد المؤلف حاجة للاستدلال أو الاستشهاد به أتى بما يناسب الحدث مثل قول ابن ثامرة مادحا الشدة وفاعليتها في فرص النظام والأمن : شدة تحكم كما حكم الدول وجنود حتمات والله يافي شدته ما نتبع الخطلان والصلفان والشدة بمعنى الالزام والحكم على الخصوم حكما حتمي التنفيذ، والشاعر يمتدح هذا القانون المنصف للضعيف والقوي. وفي المجال الوجداني وفي العتاب يقول شاعر آخر : يابو جعوداً يعطرها ببرك وكادي صدقت من نافقوا يا زين بينك وبيني أنا اشهد انك وزين الروح واتلى فروحي والبرك والكادي زهور برية توضع باقاتها واضماماتها مع ضفائر الشعر فتعطره، وفي البيت الأخير يبين مكانة المعاتب بأنه مثيل النفس في القرب والحياة وإنه منتهي فرحه. ويورد المؤلف عديداً من الأبيات الجميلة التي تلمس فيها ملامح التربية وعواطف الأمومة ونبضات الوجدان، فهذه أم تودع ابنتها يوم زفافها فتقول: لما جمال الهَيْل شدَّت وسارت حسَّيت بارض الله صغت واستدارت وقول أخرى : وداعة الله يا غرير محنَّى نحن عفينا عنك وانت اعف عنا وقول أخرى : وداعة الله يا مجلِّي ثمانه في حفظ رب البيت وامره وامانه وأخرى أو هو اتمام لما سبق : هلَّيت دمعا مثل منشا غمامه عليك يا بدر الدجى في تمامه وهذا يبدو إتمام أيضاً: كوني رشيدة والتصرف بامانه أبوك قدم للمصاهر ضمانه على أي حال، هذا كتاب رائع وممتع لا يستغني عنه باحث وبخاصة أساتذة الجامعة المتخصصين في علم الاجتماع والثقافة. وأخيراً يجب ألا يقلل من أهمية كتب الأدب الشعبي فإنها تشتمل على ذخائر من العلوم والفنون، وأقل ما يقال إنها تأذن بدخول مصادر مهمة في حياتنا العلمية.