حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الأخدود والشباب    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاعر إيمانية متدفقة


الفصل الأول
مشاعر إيمانية متدفقة
عندما خلق الله جلت قدرته الإنسان أودع فيه صفات كثيرة منها حب القيادة والإنقياد في آن واحد ، فهو يحب أن يكون قائداً مطاعاً لا يُعصى له أمر ، وفي الوقت نفسه يشعر بخواء روحي وأنه بحاجة إلى رب ينقاد له فيطيعه ، فأتخذ من مخلوقات الله أرباباً من دونه ، نتيجة لجهله ولحيرته التي كانت تتملكهُ ، فعبد الحجر والشجر والبقر والأجرام السماوية ، وتوسل إليها لتنفعهُ وتبدد من حيرته ، وتشد من عزيمته على الوصول إلى أهدافه بيسر وسهولة ، وأنقاد لها ، لكنه عندما تأمل ملياً لم يصل إلى قناعة ، يصل بها إلى بر الأمان ، فهذا جندب بن عمرو بن حممه الدوسي يقول في الجاهلية (إن للخلق خالق لا أعلم ما هو)(1)
وقد بدد الله هذه الحيرة عندما أرسل رُسُلَهُ لخلقه لإرشادهم بأنه هو الأحق بالعبادة ، قال تعالى في محكم التنزيل [مَّنِ أهْتَدَى فإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَ فَإنَّمَا يَضِلُ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً(15)] سورة (الأعراف) . وحتى يقيم جل شأنه الحجة علينا وهو اللطيف الخبير ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء أرسل إلى كل قوم رسولاً بلسانهم فقال جل من قائل [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَلآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4)] سورة (إبراهيم).
وبلاد زهران وغامد المعروفة هذه الأيام في المملكة العربية السعودية بمنطقة الباحة جزء من العالم ، عاشت تلك الحيرة في العصور الجاهلية وما أن بزغ فجر الإسلام حتى خرجوا زرافات ووحدانا ملبين الدعوة مستبشرين بعصر جديد فتوالت وفودهم على رسول اللهصلى الله عليه وسلم مبايعة على السمع والطاعة وعبادة الواحد الأحد الفرد الصمد فأضاء لهم هذا الدين الحنيف سبل السلام وبدد حيرتهم وأنقذهم من براثن الأصنام فهذب أخلاقهم وأنعكس ذلك على سلوكياتهم في حياتهم اليومية فعملوا بهدي الكتاب والسنة فتركوا لنا تراثاً سليماً نعتز به ، ولكثرته فإن الباحث مهما أعطى من وقت وقوة لا يمكنه إدراكه والإحاطه بجميع جوانبه من عادات وعلم وأدب في جميع فروعه ، تتمثل في المخاطبات اليومية والحكم والأمثال ونحو ذلك ، لكن مالا يدرك كله لا يترك جله كما يقال ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق كما تقول العرب.
وفي هذا الطرح المتواضع ، قراءة لبعض الجوانب المضيئة في أدب القُرى في هذه المنطقة الغالية من وطننا الكبير ، المملكة العربية السعودية ، والتي تفيض بمشاعر الكرم والحب شعراً كان أو نثراً ، فمن العادات الحسنة عندهم المشاركة في المناسبات السعيدة كالزواج أو الختان مادياً كالمعونة النقدية أو العينية ، ومعنوياً في إعلان الفرح والدعاء لصاحبه بالتوفيق ، وفيما يتعلق بالزواج فإنه يحتل المقام الأول في تكاتفهم الإجتماعي ، حيث يقوم العريس بتوجيه دعوة رسمية لأهالي قرية العروس تقرأ عليهم في المسجد فيلبون الدعوة بطريقتهم الخاصة حيث يقومون بالتجمع أمام مقر الحفل في شكل دائرة يكون في مقدمتها كبار السن والأعيان وفي الجزء الثاني الشباب ومن في حكمهم ثم يقف الشاعروصاحب الزير في المنتصف فيتوجه الشاعر بالقصيدة إلى المقدمة فيلقيها عليهم وهم يرددون بعده مع نغمات الزير ، فإذا حفظوها أنتقل إلى الصف الثاني وألقى عليهم الرد ، فإذا حفظوه تهيأوا للدخول ونظموا أنفسهم كطابور شبه عسكري ، إثنين إثنين ، ثم مشوا وهم يرددون القصيدتين فإذا سكت الصف الأول رفع الصف الثاني الصوت بقصيدته ، فيدخلون وهم يرقصون ويرفعون سلاحهم إلى أعلى سواء كان بنادق - كما كان في السابق – أو سيوف كما هو الحال اليوم ، ومن قصائدهم ، قول الشاعر للمقدمة :
سلام يالصور الوثيق
صور منيع بني حسن
هنا نلاحظ أنه بدأ بالسلام ثم وصف المستقبلون بالصُّور المنيع الذي بني بشكل حصين ، وهي كناية عن تمتع أولئك القوم بالقوة والمنعة والأخلاق الفاضلة ، ووصف الفرد أو الجماعة بالصور المنيع ، أشتق من صفة الأسوار التي بنيت قديماً حول القرى لحمايتها من الأعداء في الليل خاصة ، فقد كانت تقفل الأبواب في الليل فتنام المدينة آمنة ، وقد ذكر الأباء والأجداد أن هذا النظام كان معمولاً به في بعض مدن المملكة كجدة والطائف والرياض وهو أسلوب عالمي ولازالت أثارهُ قائمة ، كسور الصين العظيم وغيره ، وفي الرد نجد الشاعر أوضح الهدف من قدوم هذا الجمع الغفير فقال :
جينا نبارك يالرفيق
انحن جميع بني حسن
أي نحن جماعتك وربعك أتينا لنبارك لك في هذا الزواج ، وحتى يظهر المستقبلون الحفاوة بالضيوف فإنهم يقومون بحركات مماثلة ، فينظمون طابور آخر ويرددون عبارات الترحيب ومن ذلك قول الشاعر للصف الأول :
مرحبا وأهلين بك يالخاطر
ترحيبة منها الصفا يلين (2)
والخاطر هنا ، تعني الضيف ، وفي تخاطبهم اليومي يقولون خطر فلان على فلان ، أي أضافه ، ويجمعونها بقولهم خُطَّار – بضم الخاء وفتح الطاء وتشديدها – ثم يتوجه إلى الصف الثاني فيقول مقسماً بالله :
والله لولا خوفتي ما الماطر
لأفرش المعرض بدوبلين
إن الشاعر يقسم من فرحته وفرحة المستقبلين بقدوم هؤلاء الضيوف في هذه المناسبة ، ويقول أنه لولا خوفه (خوفتي) من المطر (الماطر) لفرشت أرض الحفل (المعرض) أي المكان الذي يعرضون فيه ويؤدون رقصاتهم ، بدوبلين ، والدوبلين قماش شديد البياض تُفصل منه الثياب ، كان حينما قال الشاعر قصيدته من أفضل الأقمشة المستوردة.
وهذه صورة شعرية أخرى تفيض بالمشاعر والحب المتدفق ، قالها الشاعر وهو يسلم على قوم آخرين في مناسبة سعيدة ، وقد إتسمت بالحب والثناء العطر النابع من خلق نبيل ، وكرم جم ، يقول فيها الشاعر :
ياسلامي عشر في عشرا
عد آيات الله وقاريها
إنه يحييهم عشر مرات ، ويثنِّي عليها بعشر أخرى ، ولم يقنعه ذلك فهو يشعر أنه لم يَفِهِمْ حقهم ، فقال في الشطر الثاني عدد آيات كتاب الله ومن قرأها ، منذ أن نزل القرآن حتى اليوم ، ويرددها ثلاث مرات كعادة الشعراء الشعبيين في هذه المنطقة ، فإذا فهمها الصف الأول توجه بالرد إلى الصف الثاني فيقول مادحاً القوم المستقبلين :
يارجال مالهم وشرى
والعشاير ذب نصاليها
إن الشاعر بدأ بالسلام ثم ثنى بالمدح فيقول في مدحه لهم أنتم مالكم (وشرى) أي مثيل.
عند تحليل النصين نجد أن الشاعر قال في الشطر الثاني من النص الأول (عِد) بكسر العين ، بمعنى عدد ، كما حذف الألف والمدة في الكلمة الثانية (يات) بمعنى آيات والعبارة كما أرادها الشاعر هي (عدد آيات الله ومن قرأها) لكن الضرورة الشعرية وأسلوب التخاطب هنا منعاه من الإتيا
ن بهما بهذا الشكل فأضطر تحت وطأت الضرورة الشعرية أن يأتي بهما بهذه الصيغة وهو بذلك يقتفي أثر شعراء الفصحى فهم يلجأون إلى هذا الأسلوب عند الضرورة ، وفي الشطر الثاني نجد الشاعر أتى بكلمتين ، الأولى وشر بمعنى مثيل ، فقال مادحاً إياهم أنتم قوم لا مثيل لكم من حيث القوة والسمعة الحسنة والعادات الطيبة ، وكلمة وشر هذه معلومة المعنى عند عرب الجزيرة كافة فهي تعني المثيل قال لسان العرب : وشُروى الشيء مثله ومنه حديث علي كرم الله وجهه (إدفعوا شرواها من الغنم) أي مثلها (3) ، أما الكلمة الثانية فهي قوله (ذِبْ) بكسر الذال وسكون الباء بمعنى نقاوم فهو يقول نحن وأنتم نعاني ونقاوم العشاير التي تناصبنا العداء كما هو معلوم ، وعشاير جمع ومفردها عشيرة ، وكلمة ذِبْ من الكلمات واسعة الإستعمال في تخاطب أهل هذه البلاد (زهران وغامد) فإذا سألت أحدهم فقلت ماذا تعمل؟ قال : ذِبْ أحرث أو ذِيبْ أسوق (أسقي) الزرع أي أنني أعمل كذا وكذا.
قال لسان العرب : ذِيب الأذيب الماء الكثير والأذيب الفزع ، لكن أقرب ما قاله ويتفق وتخاطب أهل هذه البلاد هو قوله والأذيب النشاط ، لذلك فإن الشاعر عندما يقول والعشاير ذيب نصاليهم أي أننا نشطون في مقاومة الأعداء ، والعرب في الجزيرة العربية يطلقون على الرجل النشط ذئب ، والذي أراه أن هذه الصفة جاءت من النشاط وليس من صفة ذلك الحيوان الجرئ وهو الذئب رغم نشاطه وقوته ، ثم أتى بكلمة نصاليهم تأكيداً لهذه الكلمة ، وكلمة أصالي أو نصالي وأسعة الإستعمال في تخاطب أهل هذه البلاد بمعنى المعاناة ، فالأم تقول أصالي زوجي وأولادي أي أقاوم طلباتهم وأعاني من ذلك ، والرجل يقول أصالي جاري فهو كثير التعدي على أملاكي أي أعاني منه وهكذا ، قال لسان العرب (صلى بالنار : قاسى حرها) كذلك الأمر الشديد قال أبو زبيد :
فقد تصليت حر حربهم=كما تصلىَّ المقرور من قرّس
إلى أن قال وفلان ل يصطلي بناره إذا كان شجاعاً لا يطاق (4) يقول شاعر آخر وهو يرحب بالضيوف :
مرحباً عِد نوء الصيف
من مخال يرد ماه (5)
إنه من فرحته وقومه بالضيوف يكثر لهم من العبارات التي تشعرهم بهذه الفرحة ، فيقول مرحباً عدد ما نشأ في الجو من غيوم ثم أمطرت وأرتوت الأرض وأرتفع منسوب المياه في الآبار ومصادر المياه الأخرى كالغدران والكظايم ثم يؤكد بيمين مغلظة وبصيغة الجمع أنهم يحبون الضيف ، إذ لا يزورهم في منازلهم وديارهم مثلة ، حيث يقول :
والله إنا نحب الضيف
ما يجي عندنا كماه (6)
ثم يجمعون سلاحهم من بنادق وجنابي وتوضع في مكان آمن ، تعلق الجنابي في الجدران أما البنادق فإنها لا تعلق على الجدران بل تجمع في أكوام بحيث تكون أعقابها على الأرض ورؤسها مجتمعة إلى الأعلى كما يفعل الجنود النظاميون هذه الأيام ، ثم توضع عليه حراسة مشددة حتى اليوم الثاني موعد المسابقة في الرماية ليتمكن كلا الفريقين من إستعراض مهاراتهم في الرماية وفنونها المتعددة وقد جرت العادة على المساواة في ذلك وتكافؤ الفرص فيقوم كل من الفريقين بإختيار ثلاثة أو خمسة من أفراد قبيلته من المهرة في الرماية فيبرزون إلى الميدان والبقية يتفرجون ، فيرمي الأول فيتبعه الثاني من الفريق الثاني وهكذا ثم تعلن النتيجة ويحدد الفائز ، بعد ذلك تتاح الفرصة للشباب للتدريب على الرماية تحت إشراف أولئك المهرة ، وبعد إنتهاء واجب الضيافة يعاد إلى كل واحد منهم سلاحه ثم يودعونهم بنفس الطريقة التي دخلوا بها ، فيتحلقون حول بعضهم ويقف الشاعر وصاحب الزير في المنتصف فيقول :
نقفي ويعقبنا غزير الناوي
عليك ياتالديرة وأهلها
يرددها الصف الأول كالمعتاد ثلاث مرات ثم يدير وجهه للصف الثاني فيقول :
يوم المحاجي جالها بنَّاوي(7)
يرقب نوايفها وسهلها(8)
إنه يقول في القصيدة الأولى نرجو من الله أن تكون عاقبتنا على هذه الديار المطر الغزير والعشب النضير والصحة والعافية على أهلها وفي هذا الدعاء شكر غير معلن لأهل هذه الديار التي تحسن إستقبال الضيوف وإكرامهم ثم يذكر في القصيدة الثانية قوة القبيلة هذه والتي تمثلت في بناء المحاجي لردع الأعداء والحفاظ على الأعراض والأملاك من العابثين مثلما فعل البنَّاء الذي أحكم بناء المتاريس لصد الأعداء فهو يراقب ما يجري على الجبال النايفة والسهول ، وفي صيغة أخرى من صيغ الوداع يقول الشاعر :
ذمة الله فيك يالصور الوثيق
صور برقة يرحم الله من بناه
سبق أن ذكرت أن أهل هذه البلاد يصفون أهل القرية أو القبيلة القوية التي تحرص على شرفها وسمعتها بالصور ، وفي هذه القصيدة نرى الشاعر وصف أولئك الذين أحسنوا إستقبالهم بصور برقة الذي بني في المغرب ، ومما يمكن ذكره أن صور برقة هذا ورد في أشعار أهل هذه البلاد كثيراً وهذا الذكر لم يأتِ من فراغ ، ذلك لأن الأجداد يتوارثون سيرة أبي زيد الهلالي تلك الشخصية الأسطورية ويقولون أنه مر من هذه الديار وعسكر ما بين أبيدة ومعشوقة لوجود مساحات واسعة وكان يدرب فرسانه وخيله على القتال وهو في طريقه إلى برقة حتى أن بعض الروايات تقول أنهم قاسوا قفزات حصانه فبلغت عشرين باعاً وهو ما يقدر هذه الأيام بثمانية عشر متراً ، ثم يتوجه إلى الصف الثاني فيقول:
إنحن منكم وفيكم يالرفيق
صوركم عامر وأنا عندي كماه
يقول الشاعر نحن منكم وأنتم منا إننا نكمل بعض ، فإذا أحتاج أحد منا الآخر فسوف يجده حاضراً يسانده ويقيل عثرته
ويحمي عرضه وأملاكه ، إنه يشعرهم بأنهم لا يقلون عنهم ، بعد أن أضفى عليهم مدح كثير قال صوركم عامر بالإيمان والقوة والتكاتف والتكافل الإجتماعي ، وقال أنا أيضاً عندي (كماه) أي مثله ، والقصد أن قومي مثلكم تماماً يحمون الديار ويحافظون على الأملاك والأعراض ولا يقبلون الطلم .
وفي صورة أخرى من صور الوداع يقول شاعر أخر :
ذمة الله فيك يا سعد الرفيق
الكرم والجود هذا منهله
إنه يقول نترككم في ذمة الله وأمانة ، فأنتم خير معين للرفيق تساعدونه في كل أموره ثم يقول هذا الأمر ليس بغريب عليكم لأنكم أهل الكرم والجود ومنبعه (منهله) ثم يتوجه للصف الآخر فيؤكد ما قاله سابقاً فيقول :
من يضيفك يارفيقي ما يضيق
لو تخاصمنا ترى يأمن هله
إنه يقول هنا أن من قصدك يا شريكي في الحياة والديار لن يضيق ذرعاً بما أحتاج إليه فأنت خير من يمد يد المساعدة له ويخفف عنه وطأة الحياة وقسوتها ثم يذكر أمر من أهم الأمور عند العربي المسلم ومن أنبل الصفات والأخلاق وهي عدم التعرض للنساء والأطفال عند الخصام والنزال ، إنه يقول لو تخاصمنا وحدثت بيننا مواجهة بالقول والفعل وهذا أمر طبيعي بين الإخوة والشركاء ومن الأمور المسلمة ، فإن الأهل يبقون بعيداً عن الصراع ، آمنين مطمئنين ، وهذا التصرف لا شك أنه مستقىً من هدي المصطفى محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام ، روى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظفراً ، فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟ فقال رجل يارسول الله أما هم أبناء المشركين؟ فقال : (لا إنما خياركم أبناء المشركين ثم قال لا تقتلوا ذرية لا تقتلوا ذرية...الخ(9).
وبعد ذلك يخرجون في مجموعات منظمة مثلما فعلوا في الدخول وهم يرددون :
ما نختم كلام الصالحين
إلا بالصلاة على النبي
تماماً مثلما يتم في العرضة السعودية ، حيث يردد الناس هناك عبارة معلومة عند إنتهاء العرضة وهو قولهم (تحت راية سيدي سمع وطاعة) فاللهم صلَّ وسلم على سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وتتدفق مشاعر الإيمان من حناجرهم وهم يطلبون العون من الله في ممارسة أعمالهم اليومية فعند الحصاد نجدهم ينقسمون إلى فريقين يتوجهون في صف واحد إلى المحصول المراد حصده من حنطة أو شعير أو ذرة ، ويرددون أشعار إيمانية جميلة تعينهم بعد عون الله على العمل وتثير حماسهم وتنافسهم لجمال صياغتها ، وفيها دعاء وتوسل بمن بيده الخير والتوفيق ، فيقول الفريق الأول :
يالله اليوم ياربي
ياعوينٍ لِطَلَّابه
فيرد عليهم الفريق الثاني في تناغم جميل بقولهم :
يالذي ينبت الحَبَّ
يابسٍ يوم نذرابه
ننا عندما نحلل هذين النصين نجدهم يستفتحون أعمالهم بدعاء الله رب العزة والجلال الذي بيده العون والتوفيق ثم يثنَّون على ذلك بالتأكيد بأنه وحده الذي ينبت الحّب اليابس ، وهذا القول جميل يستمد جماله من جمال القرآن الكريم ، قال جل من قائل : [يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)] سورة (النحل) ، وقال سبحانه وتعالى في أية أخرى : [إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(95)] سورة (الأنعام) .
إذاً فإنهم بدعائهم هذا لا يستكبرون بل يعترفون بأن الله هو المعين ذو القوة المتين وهو الذي ينبت الحَب بعد أن يبذروه في الأرض يابساً ومن يستطيع أن ينبته غير الله؟
وفي صورة أخرى يتكرر المشهد الإيماني والذي يتمثل في العبارات التي تنم عن حاجة ملحة إلى كرم الله الذي لا ينقطع عن عباده الصالحين فهم يدعون الله بأن يفضي عليهم الستر فأهل هذه البلاد يقدمون الستر على العافية ، وفلسفتهم في ذلك أن الله إذا ستر على الفرد وأسرته وعاشوا في أمن وسلام فإن أحداً مهما كان لن يأتي إليهم ، ويقول لهم لماذا أنتم مستورين في بيوتكم؟ ، إنما لو منح الإنسان العافية ورافقتها فضيحة في النفس أو العرض أو المال فإنه حتماً سيتعرض لملاحقة السلطان لمحاسبته ، وملاحقة المجتمع بنشر أخباره السيئة في أحاديث مجالسهم ، وضرب المثل به لسوء تصرفه وتحذير بعضهم بعضاً منه فقد أصبح عبرة لمن يعتبر ، وأهل هذه البلاد كثيراً ما يحثون على طلب الستر ومن الحكم التي يتداولونها قولهم (صك بيتك وصن جارك) أي أبق في بيتك وأحفظ كرامتك وكرامة جارك ، يقول الفريق الأول عند الحصاد :
يالله اليوم يا ستار
ما للأستار عَيَّنَه(10)
فيرد الفريق الثاني ويقول :
وان بلينا بشب النار
فإن الأفعال بيِّنَة
إنهم هنا يتوجهون إلى الله ساتر العيوب بأن يمنحهم الستر فهو عندهم وعند الناس جميعاً لا مثيل له (عَيِّنَه) ويقولون إذا إبتلينا بشب النار ، وهذه كناية عن الفتنة فلا مناص ولا مندوحة من مواجهتها لأن الهزيمة والتغاضي في مثل هذه الأمور يزيدها تعقيداً وتفتح شهية العدو لإرتكاب المزيد من منها ، ثم إننا لدينا تجارب سابقة أثبتنا فيها قدرتنا على التصدي لمثيري الفتنة والشغب وأوقفناهم عند حدهم ، ويرون أن الدفاع عن النفس والمال والعرض مشروع منطلقين من التوجيه الرباني في محكم التنزيل ، قال جل من قائل : [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)] سورة (البقرة).
وفي صورة إيمانية رائعة يعترف فيها الداعي إلى الله بأنه الذي يحيي العظام وهي رميم (هشيم) فيقول عندما بلغ به التعب حده وهناك من يمكنه المساعدة فلم يفعل يالله تقطع الرأس الذي ما فيه شيمة والمعنى عندهم ليس يقطعه بالموت ولكن بالإبعاد عنهم وكلمة قطع الله فلان مافيه خير تعني في تخاطب أهل هذه البلاد أبعده عن مجتمعنا حتى لا يصاب الأخرون بالعدوى ، لأن الذي مافيه شيمة لا خير فيه لنفسه ولا مجتمعه حيث يقولون :
يالله يامحيي العظام اللي هشيمة
تقطع الرأس الذي مافيه شيمة
وليس بغريب أن ينبذوا ذلك الشخص من مجتمعهم فقد عرف العربي بشيمته وحبه لفعل الخير وإغاثة الملهوف وإقالة العاثر وإقراء الضيف وحماية العرض ، هذا القول يستمد قوته من السنة النبوية المطهرة فقد جاء في الحديث أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخية.
وهذه صورة أخرى من الصور الإيمانية عندهم فعندما يتأخر المطر وتنضب الآبار من المياة ، نجد سائق السانية يخاطب سانيته ويقول لها (عَلْ يا غريب وفرج الله قريب من الداعي للمجيب) والغريب هو الثور الذي يجر الماء من البئر وسمي غريباً لأنه قد جاء من خارج المنطقة ، ولقد كانت قديماً تجارة الماشية رائجة بين هذه المنطقة ومنطقة حَليْ في تهامة عسير ، لذلك عدُّوه غريباً فقد جاء يخدم هنا مثله مثل الإنسان الذي يذهب إلى ديار الغربة للبحث عن الرزق ، وكلمة عَلْ جاءت من العلل وهو التردد ما بين القف والمجرَّة ليرفع الغرب بما أستطاع أن يستوعبه من ماء ، إنه يقول له أصبر فإن فرج الله قريب أقرب من إجابة المنادي في أمر عاجل وهام.
ومن صيغ الإيمان عندهم عندما يبزغ الفجر قولهم (اللهم يا فالق الإصباح ، وعالم الليل أين راح ، رافقنا في الغدوة والرواح) ومعلوم لدى المسلمين كافة أن من رافقه الله رضي عليه ووفقه ، وهذا القول يستمد قوته من قول الله جل شأنه في محكم التنزيل : [فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)] سورة (الأنعام).
ولا شك أن المشاعر الإيمانية المتدفقة كثيرة في تحركاتهم اليومية ، وما هذه المشاعر في هذا الطرح المتواضع إلا إضاءات بسيطة في جوانب مختلفة في أدب قرى منطقة الباحة ، والله أعلم وهو المستعان.
والشعراء بما منحهم الله جل شأنه من ذكاء وفطنة ووعي ومكانة عند الناس وأثر ما يقولون ، فإن بعضهم لا يتورع عن توجيه الناس للشر وإثارة المشاكل ، وقد برز في مجال إصلاح ذات بين القبائل في هذه البلاد (زهران وغامد) شاعران كبيران ، هما الشاعر محمد بن غرم الله الثوابي الزهراني الملقب ب (إبن ثامرة) الذي لقَّبَهُ البعض بشاعر الإصلاح والمفاخرة ، والشاعر عبدالله بن سعيد الزبير الغامدي ، وقد أورد الأستاذ علي ين صالح السلوك الزهراني سيرتيهما وشيء من شعرهما في (الموروثات الشعبية لغامد وزهران11) ، لكنهما ليسا الوحيدين في هذا المجال ، وبما أن الشاعر لسان قومه والمتحدث بإسمهم والمعبر عما يدور في أفكارهم ، فإنه يعتبر قائداً مؤثراً من نوعٍ خاص ، وفي يوم من الأيام مر أهل إحدى القرى بعرضة وهم في طريقهم لحضور حفلة زواج على قرية مجاورة لهم بقصد دفعهم عنوة وبطريقة فيها شيء من الكيد ، ومحاولة إجبارهم على إستضافتهم لوجبة الغداء قبل أن يتوجهوا إلى قرية العريس البعيدة ، وكما جرت به العادة ، لأن الزمن كان زمن جوع أناخ بكلكله في كل بيت ، فأستقبلوهم بعرضه مماثلة كما تقضي به العادة أيضاً ، رغم شعورهم بالإمتعاض ، فالقريتين متجاورتين والظروف تشبه بعضها والإحراج غير مرغوب فيه ، ولكنهم كتموا مشاعرهم وأستقبلوهم وأكرموهم ، أما الشاعر فإنه لم يسكت على ذلك فقال مرحباً وملمحاً غير مصرح :
مرحبا ما حثث الناوي (12)
نعرف العوجا من القاره(13)
ثم قال في الطرف الثاني :
يالله إنك تهدي الغاوي
يسلمون الناس من شره
هنا نجد الشاعر يقول لهم نحن نعرف الخطأ من الصواب ولن تنطلي علينا هذه الحركة والتي فيها مكيدة وفرض رأي ، لكن الله يهديكم.
--------------------------------------------------
1) أنظر كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني م/12/ ص (52).
2) الصفا : الحجر الصلب.
3) راجع ترجمته لمعاني (شرى).
4) أنظر ترجمته لمعاني فعل (صلا).
5) ماه : ماؤه.
6) كماه : مثله.
7) المحاجي : جمع : مفردها محجاه ، وهي المكان الذي يحتجب فيه الرامي .. بناوي : أي البناء.
8) نوايفها : الجبال الشاهقة.
9) مختصر تفسير إبن كثير م/3/ص(54).
10) عَيَّنَه : أي مثال.
11) راجع الكتاب الثاني صفحة 8 ، 204.
12) حثثت الناوي : تراكمت السحب وأمطرت.
13) العوجاء من القارة : الخطأ والصواب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.