العلمانية واحدة من المصطلحات المفخخة التي يتم اختزال دلالاتها في الجانب السياسي بعد منحها صفة : معادٍ للدين . وهي صفة تستخدم للإدانة .. أي أنها لا تصلح للاستعانة بها عند التصدي لتعريف المصطلح بشكل موضوعي. لكي نفهم العلمانية جيدا يجب علينا أن نعود إلى تاريخها كمنهج فكري حاول وضع حد لاستبداد مؤسسة الكنيسة معرفياً بالدرجة الأولى ، وسياسياً بالدرجة الثانية. العلمانية بوصفها منهجاً فكرياً ظهرت كاستجابة طبيعية لحاجة العلم إلى التحرر من المنظومة المعرفية الكنسية المغلقة على الفرضيات الغيبية والتصورات اليقينية. وعندما أقول منظومة معرفية ، فإنني لا أعني الجانب المتعلق بالحياة الروحية للفرد والمجتمع ، وإنما أقصد مجموعة الأفكار المسبقة والتفسيرات الإطلاقية للواقع المتغير ، سواء فيما كان يتعلق بالقوانين المسؤولة عن حركة الكون ، أو تلك المسيرة للفرد والمجتمعات البشرية. المنظومة المعرفية الكنسية المغلقة على الفرضيات الغيبية والقراءات الاطلاقية والتفاسير اليقينية ، لم تقدم نفسها باعتبارها الدين نفسه وحسب ، ولكنها صادرت حق العلم في البحث والاكتشاف ، ومن ثم العمل على تسخير المعطيات الكونية لخدمة الإنسان. ولعل أوضح مثال على ما قلته آنفاً ، هو ذلك العنت الذي أبدته المؤسسة الكنسية في رفض ما اتضح بعد ذلك أنه حقيقة علمية لا مراء فيها ، والتي تمثلت في دوران الأرض حول الشمس لا في دوران الشمس حول الأرض. هذا الاشتباك بين المنظومة المعرفية للكنيسة وبين حاجة العقل للاستعانة بالمنهج العلمي للتعامل مع الكون والواقع عموما ، هو الذي أدى إلى ظهور العلمانية كمنهج فكري نازع للقداسة عن الأفكار الإطلاقية التي تستند إلى الفرضيات الغيبية لتفسير الواقع. وهو ما لا يمكن أن يدخل في نطاق إنكار الغيب نفسه كما يعتقد البعض. ما سبق يوضح أن أي تعريف للعلمانية لا يأخذ بعين الاعتبار تاريخ التطور المعرفي في القارة الأوروبية وفي الثقافة الغربية عموما ، هو أقرب إلى أن يكون حكما مسبقا من أن يكون تعريفاً علمياً يتسم بالموضوعية والتجرد. لكن ماذا عن العلمانية في بعدها السياسي..؟ هذا ما سيكون موضوع نقاشنا القادم.