في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. تصوير بلاغي واضح لحالة اليهود الذين غيروا وبدلوا وخانوا الأمانة فلم يعملوا بما أمرهم الله به في التوراة التي أنزلها الله على نبيه موسى عليه الصلاة والسلام مكتوبة بيده سبحانه وتعالى. إنه التشبيه التمثيلي المركب الذي يقوم على تشبيه هيئة بهيئة وصورة بصورة، وهو أعلى أنواع التشبيه وأكثرها إمتاعا. وإنها لصورة منفرة، توضح من خلال المشبه به سوء حالة المشبه، وسفه عقله وضيق أفقه، فالمشبه به هنا هو الحمار الذي وضعت على ظهره كتب كثيرة منوعة مفيدة، فهو يحملها لنقلها من مكان إلى مكان، ولكنه لا يفقه منها شيئا، ولا يعرف قيمة ما يحمل، وعبر عن التكبر هنا بالأسفار، وهو جمع سفر بكسر السين وتسكين الفاء، وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ ويبينه، وفي اختيار كلمة أسفار بهذا المعنى بُعد بلاغي واضح لأنه يدل على كتب كبيرة ذات فوائد كثيرة وليست كتبا قليلة الفائدة، فقيرة المعلومة، ومع ذلك فإن الحمار يحملها على ظهره دون إحساس بقيمتها. إنها الصورة الحقيقية للإنسان الذي يحمل الكتاب الذي أنزله الله على رسوله، فلا يعنى به ولا يقدر قيمته، ولا يعمل بما فيه من الهدى والصلاح. هل هذه الصورة السيئة خاصة باليهود؟ كلا، إنها تنسحب على كل من يحمل كتبا نافعة ثم لا يعمل بما فيها، ولا يقدر قيمة العلم الذي تنطوي عليه. كم من مسلم يحمل القرآن مصحفا يتلو ما فيه من الآيات، ويضعه في بيته بطبعات منمقة جميلة، وهو معطل تعاليمه، بعيد كل البعد عن تطبيق ما فيه من الخير والصلاح والهدى واليقين؟ إنه لا يخرج عن دائرة التشبيه القرآني البليغ، ولا يسلم من سوء دلالتها ومعناها.