إنَّنا بحكم الفطرة شعب متديّن سرى إليه التّدين بعوامل متساوقة أخذها الخلف عن السَّلف؛ فطرةً.. فوراثةً.. ثمّ تقليدًا ومحاكاةً؛ فتكوّن لدينا دِين نتديَّنه أَشْبه بالاكتساب المتوارث منه إلى الإيمان الثّابت. وزاد من وهج هذا التّديّن خيوط الاعتصام بالنّسق الجمعيّ في الحكم على الأشياء الذي لا يقبل في محيطه إلاّ الشَّكل العام الشَّاخص في الأذهان؛ ممّا له أكبر الأثر في التّعاطي مع هذا السُّلوك كعلامة بارزة لا تخطيها عين الرقيب. وهذا التديّن يتراءى ماثلًا للعيان، تدعمه شواهد الواقع وبراهين الّلحظة؛ وتزداد القناعة بهذا الحكم إلى حدّ استحضار الأدلة والاعتصام بها، وسردها واحدًا تلو آخر في ثقة من استحضار الدَّليل وصحّة البرهان. ولذلك ستجد من يعرض عليك الدِّين مشوشًا مشوهًا -كما يقول محمد الغزالي- لا يتجاور فيه الرأس والقدم، وتنخلع الأطراف والحواس من مكانها لتوضع العين في اليد بدل مستقرها في الوجه.. وإذا بنينا قولًا على ما قال به الغزالي فإنّنا نقول: إنَّ حسن التَّصور لحقائق الدِّين -كما وردت- لا بدّ أن تكون إلى جانبه ضميمة أخرى؛ هي صدق العمل بها، فإنَّ علاج مشكلات النّاس وأدوائهم لا يقدر عليها إلاَّ رجل حلَّ مشكلات نفسه، وداوى عِللها بالحقائق الدِّينيّة التي يعرضها. أمّا لماذا؟! فلأنَّ كثرة البضاعة من نصوص السّماء لا تغني فتيلًا في نفع صاحبها، أو نفع النّاس من عنده إذا كان مُلتاث الطّبيعة مريض الفطرة!! وهنا تتبدى الآية الكريمة إلى الذّهن منكرة هذا اللون من السّلوك الشّاذ؛ لأنَّه أقرب إلى الادعاء الزائف منه إلى الواقع المعاش:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؛ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). وتتجلى الحقيقة في قوله تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَم يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). حسنًا.. هاك أمثلة حيّة لا تغرب عن أعين الفحص حال النّظر والمراقبة: يتربع أحدهم في ثنايا المجلس محدثًا عن قيمٍ ومُثل ومكارم أخلاق، حديثًا جميلًا يسرّ السَّامعين، ويغري بلذَّة المتابعة، مدعومًا بالدّليل من كتاب الله وسنّة رسوله عليه أفضل الصَّلاة وأتمّ التَّسليم، وإنْ أسعفته الذّاكرة زادك قصة متخيّلة أو واقعة، وما إنْ ينطوي المجلس وينفضّ الحديث، تراءت لك الصّورة الحقيقية وهي تكشف عن غطاء مستور كلّه سوءة وقبح: سرقة في الخفاء من بوابة التديّن.. وكشف عورة بمفتاح النصيحة.. ونميمة بغيًا لنهي عن المنكر.. وتتبع عورات عباد الله تحت ذرائع الغيرة على محارم الله!! وقصر القول وختمه.. إن التَّدين كقيمة إسلاميّة مَحْمَدة تتسابق إليه القلوب السليمة؛ ولكنَّه آفةٌ كبرى لا يورث صاحبها إلاّ العلل الاجتماعيّة، والأمراض المزمنة إذا استحال إلى سلوكٍ مزدوج، وغواية شيطانية حينما يستحليه البعض لقضاء الحوائج وتحقيق المصالح باسمه.