لا تخفى المشقة والضرر الكبير الذي يحصل على الحجاج جراء منع الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة قبل غروب الشمس ؛ عملا برأي من أوجب الوقوف بعرفة لجزء من الليل مع ما يدرك من النهار. فيحصل بذلك المنع إلزام العموم برأي هو محل خلاف ويطول انتظارهم بعرفة ثم يتحملون شدة الزحام والتوقف المتكرر وخطر حوادث السير والأعطال ويلاقي النساء والأطفال وكبار السن من الارهاق والمشقة والضرر ما ليس لهم به قبل لازدحام الطرق واختناقها بالسيارات ؛ كما تعاني الجهات المنظمة وأفرادها في الميدان والقائمون على خدمة الحجاج جراء ذلك عبئا لا يستطاع ؛ ومع ذلك لا يصل كثير من الحجاج إلى مزدلفة إلا بعد منتصف الليل ، وبعضهم بعد طلوع الفجر فيفوتهم المبيت بمزدلفة كليا ، وكل ذلك سببه الأكبر توحيد زمن انطلاق الحجاج جميعا من عرفة إلى مزدلفة ويدل لصحة هذا أنك لا تجد كل ذلك العناء والضرر والمشقة في دخول الحجاج إلى عرفة لتفاوت أوقات مجيئهم إليها واتساعه من أول النهار حتى آخره. ولا يخفى أن القول بوجوب الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس ليس محل اتفاق بل محل اختلاف وهو من المسائل الاجتهادية ، وليس في القول بوجوبه دليل صريح بل الأظهر أن الدليل بخلافه. فعن عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه أنه حج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدرك الناس إلا وهم بجمع قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني أنضيت راحلتي وأتعبت نفسي والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من شهد معنا هذه الصلاة ، صلاة الفجر بالمزدلفة ، وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه) حديث صحيح. قال ابن عبد البر : هذا الحديث يقضي بأن من لم يأت عرفات ، ولم يفض منها ليلا أو نهارًا فلا حج له ، ومن أفاض منها ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه. ويؤيده حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا يا رسول الله كيف الحج فقال (الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه ، أيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ثم أردف رجلا خلفه فجعل ينادي بهن) حديث صحيح. فالمناسب أن تعيد الجهات المنظمة للحج النظر في العمل بذلك ؛ بأن تترك إفاضة الحجاج إلى مزدلفة متاحة من بعد زوال شمس يوم عرفة لمن شاء وتنظم مسارات محددة لذلك تساعد على وصول الحجاج إلى نهايات مزدلفة المتصلة ببدايات منى ليجد اللاحقون لهم متسعا بها الأول فالأول مع إبقاء مخارج كافية مهيأة لخروج من شاء من مزدلفة بيسر لحل تلك المشقة. ويبين للناس أن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام باتفاق ، ومن وقف بالليل دون النهار أو بالنهار دون الليل فوقوفه صحيح ؛ ولا شيء عليه في أظهر أقوال الفقهاء إذ ليس في النصوص الصحيحة ما يخالف ذلك. وهو الصحيح من مذهب الشافعي وأنه لا دم لمن وقف بعرفة مقتصرا على النهار فضلا عن أن إيجاب الدماء في مخالفات الحج اجتهاد لم يَرِد به نص ملزم من كتاب أو سنة وإنما جاء النص عليه فيمن كان به أذى من رأسه. ولا شك في أن الأخذ بقول من قال بجواز إفاضة الحاج من عرفة قبل غروب الشمس من التيسير المشروع ؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.