لقيتُ من العناء ما لقيت في إقناع صاحب لي طالب علم هجم على ذهنه رأي فائل في مسألة كبرى من مسائل الحج، يقول فيه: مَن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار، فقد صح حجّه، وإن لم يعمل شيئًا من أعمال الحج؛ حتّى لو لم يطوَّف بالصفا والمروة، ولا بالبيت العتيق! قلت: ما الدليل؟ قال: قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة). قلت: هذا وارد على سبب، وهو أنهم كانوا يقفون بالمزدلفة، فقيل لهم ذلك، أي: ابتداء الحج من عرفة. قال: العبرة بعموم الألفاظ. قلت: لكن معرفة الأسباب طريق من طرق فهم المراد ومعرفته. قال: فماذا تقول في حديث عروة بن مضرس الذي رواه مسلم، وفيه: (من شهد صلاتنا هذه -أي صلاة الفجر بمزدلفة- وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه)؟ قلت: الحديث لم يروه مسلم في صحيحه، ويلزمك أن تقول في الوقوف بمزدلفة ما قلته في الوقوف بعرفة، فإنه قال: (مَن شهد صلاتنا هذه..) فلماذا أغفلت هذه، وقد بدأ بها؟ فترك الجواب ورجع إلى ترديد: (الحج عرفة). قلت: هذه كقولك: الرجل زيدٌ، وكتسمية الأفعال المشتملة على التكبير والقراءة والركوع والقيام والسجود ركعة، وما الركعة إلاَّ بعض ذلك، فإن الكل المشتمل على أبعاض قد يُسمّى بواحد من أبعاضه؛ لأنه أظهرها، أو أكبرها، أو أوّلها، أو لمعنى آخر يريده الواضع كالحث على الاعتناء به، وهذان النسكان وقتهما مضيَّق، فمن فاته الوقوف بعرفة، فقد فاته الحج بإجماع العلماء، وكذلك مزدلفة في قول طائفة منهم. ثم قلت: المقصود بالحج هو هذا البيت العتيق، الذي جعله الله قيامًا للناس، ورفع إبراهيم قواعده، وأمر بأن يؤذن في الناس بالحج إليه.. وقال الله: (ولله على الناس حج البيت). وقال: (وليطوَّفوا بالبيت العتيق).. أفيُعقل في عقل عاقل أن يفهم بعد هذا أن يأتي حاجّ من أقصى الأرض فيقف بعرفة يوم عرفة، ويلوي راجعًا إلى بلده بحج صحيح قام لا مناسك، ولا طواف، ولا سعي؟ يا لها من غنيمة باردة! وههنا ضحكت، وما لي لا أضحك؟ وقد قال الشافعي رحمه الله: (مَن استُغضب فلم يغضب فهو حمار). وأنا أقول: من استُضحك فلم يضحك فهو هو -أعني أبا زياد، أو أبا صابر- ومن تعريفات الإنسان لدى المنطقيين: الإنسان حيوان ضاحك، والله يقول: (بل عجبت ويسخرون) بضم التاء وفتحها، كل ذلك صحت به القراءة.