منذ نحو أسبوعين تقريبا وجهت عبر مقال دعوة لأمين مدينة جدة ليقوم بجولة ميدانية على الوضع المزري لشوارع مدينة جدة التي تزداد سوءا مع الأيام ، ومنذ يومين مررت بالصدفة من أحد الشوارع التي كنت أشرت إليها في مقالي السابق كنموذج للوضع المزري لشوارع المدينة وهو شارع الشيخ ابن باز رحمه الله وأثناء اتجاهي إلى الشرق من فوق الكوبري المؤدي إلى شرق المدينة عبر هذا الشارع قلت في نفسي لابد أن أمين جدة قرأ كلامي وقام بالجولة المطلوبة ، حيث كان الشارع معبدا خاليا من الحفر والمطبات التي كانت لا تحصى ولا تعد ، لكن يا فرحة ما تمت ، كما يقال ، ففي طريق عودتي من نفس الشارع كانت الحفر والمطبات على حالها بل ازدادت سوءا ، قلت لعل الأمين سار في اتجاه واحد ولم ينتبه أن للشارع اتجاهين ، ثم قلت غير معقول ، فتلك بديهية ، ثم قلبت الأمر واتصلت مستعينا بصديق فقال لي بسرعة: أنت تحلم ، الأمين ما سأل فيك ولا في الشارع ، الأمين لا يسمع إلا من الخبراء والاستشاريين المتخصصين. إن أدق وصف لأمانة جدة سمعته منذ أيام هو أنها تحولت في السنوات العشر الأخيرة إلى مركز دراسات وتنظير ، ونسيت أو تجاهلت دورها الميداني الأساسي ، فأنت حين تقرأ أو تسمع عن الدراسات والأبحاث والخطط التي أعدتها الأمانة أو هي بصدد إعدادها تشعر أنك ستجد جدة مثل سنغافورة تنظيما وصيانة ونظافة ، لكنك حين تتجول في المدينة تجد أن تلك الدراسات والتنظيرات وأصحابها لم يغادروا مكاتبهم الفاخرة ولا يعلمون شيئا عن واقع الميدان. المسؤول الذي لا ينزل إلى ميدان مسؤوليته ويرى الواقع بأم عينيه لا يستطيع أن يتخيل أو يتصور من واقع التقارير التي تصله مهما كانت تلك التقارير دقيقة ومنصفة ، فما بالك إذا كان حتى من يعد التقارير لا ينزل بنفسه إلى الميدان وإنما يعتمد على تقارير أو كلام مثله. إنني عندما دعوت أمين جدة إلى جولة ميدانية فإنني لا أعني أن يقف بنفسه على كل شارع وزقاق ، ولكنه لابد أن يرى بعينيه مستوى السوء الذي بلغته معظم شوارع المدينة ويمكنه أن يقيس على النماذج التي يشاهدها بنفسه ، وعلى ضوئها يتصرف مع التنفيذيين ومع الشركات التي تنفذ المشاريع. في السبعة أعوام الأولى من القرن الهجري الجديد كان الدكتور حسن حجرة رئيسا لبلدية الطائف ، وكان يوميا يقوم بجولة بسيارته من السادسة حتى السابعة والنصف صباحا ، فلا يصل بقية مسؤولي البلدية إلى مكاتبهم عند الثامنة صباحا إلا وأمام كل منهم الملاحظات التي تخص قطاعه ، ومن أجل هذا تحقق للطائف في تلك السنوات خدمات ومشروعات بلدية متميزة ، وما تشاهده اليوم من تشجير وحدائق في عروس المصائف هو من ثمار تلك الفترة الذهبية الرائعة من تاريخها. إن المطلوب من أمانة جدة وغيرها من الأمانات والبلديات أن يخرج مسؤولوها إلى الميدان ، يشاهدون ويراقبون ، ولا يظلون محبوسين في مكاتبهم ينتظرون التقارير ، أو غارقين في تنظيرات الأبحاث وأوهام التخطيط الذي لا يغادر الورق ، وقد سبق لأمانة جدة – مثلا – أن أعلنت أنها تراقب حفر الشوارع ومطباتها بالأقمار الصناعية وترصدها وتحدد مواقعها وأثبت الواقع أن ذلك تنظير وأحلام واستهلاك إعلامي لا أكثر ، فالحفر تتكاثر وحال شوارع المدينة يسوء ، والأبحاث والتنظيرات مستمرة ، وأقمار الأمانة الصناعية تدور في أفلاك بعيدة عن الواقع المزري للشوارع ، فيا أمين جدة ، الرجاء إيقاف الأبحاث والدراسات لمدة سنة خصصوها لترقيع شوارع جدة ، فالميدان هو الذي سيمنح الأمانة شهادة النجاح أو الفشل ، وليس شاشات الكمبيوتر وقاعات العرض والاستعراض ، فالميدان يا حميدان.