منذ نهاية عهد الاستعمار في الخمسينيات ، والستينيات من القرن الماضي -وبعد انسحاب الإمبراطورية الإنجليزية من شرق السويس- والعلاقات العربية الإيرانية في اضطراب ، والسبب في ذلك النزعة التوسعية لدى الإيرانيين . وما أنوي التحدّث عنه هنا هو بعض أحداث التاريخ المعاصر ، ولن أذهب إلى بداية تاريخ الدولة الإسلامية وانهزام الفرس واعتناقهم للدين الإسلامي ؛ لأن الجدال في الماضي غير مُجدٍ في هذه المرحلة . وإيران دولة جوار بحدودها المعترف بها ، دينها الإسلام، وتربطها بكل الدول العربية علاقات تبادل تجاري ، وسياحي ، ومصالح مشتركة ، وهي عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي ، وأوجه التعاون كثيرة ، وبالإمكان اتساعها بشكل كبير لو عرف النظام الإيراني كيف يستثمرها بدون استفزازات ، وبدون تدخلات في شؤون الدول العربية . ومن المشكلات القائمة أنه منذ استقلال دولة الإمارات العربية في عام 1972م عندما احتلت إيران الجزر الواقعة في مضيق هرمز في عهد الشاه ، وظلت تسوّف وتناور وترفض أي حل لتلك المعضلة ، ومن بعد استقلال البحرين ادعت أحقيتها في السيطرة على الجزيرة ، ومن بعد حسمت عروبة البحرين باستفتاء عام اختار شعب البحرين البقاء مستقلاً ضمن منظومة الخليج العربية ، ورغم ذلك تتكرر الاستفزازات من قبل المسؤولين الإيرانيين ، وكان لديهم وصاية مطلقة على ذلك الشعب المسالم . والكويت يتعرض لمؤامرات وتدخلات ، والحرب العراقية الإيرانية وما بعدها يطول الحديث عنه ، وما تفعله إيران في ذلك البلد العربي. قد يفهم الإنسان لو كانت إيران دولة غير مسلمة ، وقد يكون هناك مبرر أيضًا للانتقام من العرب ؛ الذين هزموهم قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن ونشروا الإسلام في ذلك الجزء من العالم ، الذي لعب دورًا مهمًّا في النهضة الإسلامية لا أحد ينكرها ، وقد يفهم الإنسان لو أن جوار إيران العربي دولة واحدة تناشد بضم إيران تحت لوائها ، وأمور كثيرة قد يتصورها المتمعن في الشأن الإيراني بحثًا عن مبرر لاستمرار التحديات والاستفزازات لجيرانها متذرعة بحجج وخلافات مذهبية . العرب أولى بحلها ، لأن أهل البيت عرب أقحاح لهم الفضل ويترضى عليهم المسلمون في كل صلاة تقام منذ أربعة عشر قرنًا من الزمن ، وإلى أن تقوم الساعة. ثم إن الخلافات المذهبية لا تُحل بالتهديد والوعيد والاعتداءات والمؤامرات ، بل يجب أن يجتمع أهل العلم المختصين بشؤون العقيدة والدين ، ويقفلوا باب الخلاف السنّي الشيعي الذي تستخدمه إيران لدعم تطلعاتها الصفوية ، وشق عصا الأمة الإسلامية ، والمستفيد أعداء الإسلام والمسلمين . فكل دول المنطقة -بدون استثناء- لم تسلم من حكام إيران ، ومَن يدّعون التشيّع من رموزها . وإيران منذ استقلالها وهي تعيش عدم استقرار ، وعندما أتى الخميني في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، أزاد إحكام قبضة الملالي على مفاصل السلطة ، وزادت حدة الفقر والتخلّف ، الأمر الذي يؤدي بهم إلى افتعال أزمات متعددة مع دول الجوار لصرف أنظار الشعب الإيراني عن المشكلات الداخلية التي يعيشها المواطنون في ذلك البلد الثري ، والمحروم من الاستقرار واستغلال ثرواته بالطرق السليمة . ومن المؤكد أن شيعة البحرين وغيرهم يستطيعون مشاهدة الفوارق بين مستوى المعيشة ، وهامش الحرية الذي يعيشونه في دولهم -مثلهم مثل غيرهم من المواطنين- ويحكموا بأنفسهم من الأحسن ، هم أم المواطن الإيراني المغلوب على أمره تحت قهر الملالي أصحاب النفوذ والعزف على وتر نصرة آل البيت ، ليستزيدوا من الثراء والحياة الباذخة على حساب عامة الشعب ! إن المراقب الموضوعي يستطيع أن يعرف بأن النظام الإيراني بإمكانه أن يحقق نتائج أفضل لشعبه في الدرجة الأولى ، وأن يكون عامل استقرار في المنطقة ، لو عرف كيف يتعامل مع جيرانه ، ولن يجد أفضل من القادة الحاليين في استعدادهم للتفاهم ، وحل المشكلات العالقة -مثل الجزر الإماراتية- بالطرق السلمية، وترك مملكة البحرين تتعامل مع شؤونها الداخلية بدون مزايدات من الخارج ، والابتعاد عن زيادة حدة التوتر في لبنان ودول المنطقة . وترك آل البيت -رضي الله عنهم وأرضاهم- يرقدون في مضاجعهم وأرواحهم في جنان الخلد بإذن الله تعالى -بعيدًا عن سياسة العصر وتقلباتها- لهم ما لهم ، وعليهم ما عليهم . والله بعباده عليم. من السهل أن يستسلم الواحد للأمر الواقع ، ويقول إن إيران لن تتغير ، وأن حالة المد والجزر في العلاقات مع دول الجوار ستستمر ، وأن الخلاف المذهبي استمر طويلاً ولا داعي لمحاولة حلّه بالطرق العقلانية ، وأن على الجميع الانتظار حتى يُسخِّر الله لذلك البلد الكبير ، الثري ، مَن يقوده إلى حالة من الأمن والاستقرار والرخاء والوئام مع جواره العربي، بعيدًا عن المزايدات ، وافتعال الأزمات، لصرف الأنظار عن مشكلاته الداخلية ، كل ذلك ممكن ، ولكن المرحلة تتطلب أن تفيق إيران ، وتُقرِّر ماذا تريد من جوارها العربي في ظل التحالفات الحالية التي لن تترك مجال للعبث بأمن دول المنطقة ، مهما كان الثمن.